إن اباحة ضرب الصبيان، تاديبا وتعليما حالة مستثناة من الاصل مع جملة من الاشتراطات والقيود ؛ لكن اغلب المدرسين في المحاظر جعلوا هذا الاستثناء أصلا ؛ ولم يلتزموا بالاشتراطات والقيود !!
لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب طفلًا قط !
بل ثبة نفي ذلك في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِى سَبِيلِ اللهِ، “. أخرجه مسلم.
لكن ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية ضرب الاطفال بقيود ؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عَشْر، وفرقوا بينهم في المضاجع)؛ رواه أحمد وأبو داود، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وهذا الحديث يدل على مشروعية العقوبة الجسدية للاطفال ولكن بقيود وضوابط ؛ بعضها دل عليه هذا الحديث وبعضها دلت عليه نصوص اخرى؛ ونود هنا ذكر بعض هذه القيود :
القيد الاول :
١- ان الصبيان لا ينبغي ضربهم قبل سن العاشرة ؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه السن هي المحدد لمشروعية الضرب لمن ترك الصلاة ؛ فالصبي اذاترك الصلاة في سن السابعة او الثامنة او التاسعة يؤمر بالصلاة ولكنه لا يضرب ؛ فدل ذلك على أنه لا يضرب على حفظ القرآن في هذه السن لأنه اذا لم يضرب على ترك الصلاة الواجبة عليه بعد البلوغ ؛ فلا يضرب ايضا على ترك حفظ القرآن الذي ليس واجبا عليه.
***
القيد الثاني :
ان الضرب المشروع ليس مطلقا من ناحية العدد بل هو مقيد بعدد محدود ؛ وللعلماء في ذلك قولان :
القول الاول : انه يقيد بثلاث ضربات لا يتجاوزها الا لضرورة .
والى هذا القول ذهب عمر بن عبدالعزيز والضحاك ؛ كما روى ذلك عنهما ابن أبي الدنيا في “كتاب العيال” حيث قال:”كان عمر بن عبدالعزيز يكتب إلى الأمصار: لا يقرِنُ – أي لا يجمع – المعلمُ فوق ثلاث، فإنها مخافةٌ للغلام”، ثم روى عن الضحاك قوله:”ما ضرب المعلم غلاماً فوق ثلاث فهو قصاص”.ا.هـ
ونقل النووي في شرح “صحيح مسلم” عن ابن أبي ذئب، وابن أبي يحيى أنهما قالا:”لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب”.ا.هـ.
وقال المواق المالكي في “التاج والإكليل” : (وقال أشهب في مؤدب الصبيان: إن زاد على ثلاثة أسواط اقتُصَّ منه)اهـ.
وفي ذلك يقول الناظم :
واقتص من مؤدب زاد على
ثلاث أسواط على ما نقلا
عن أشهب المواق عند فرع
وأمر الصبي بها لسبع.
ونقل الحطاب عن الجزولي قوله : (يضربون ثلاثة اسواط على الظهر من فوق الثوب ويضرب تحت القدم عريانا ولا يزيد على الثلاثة فإن زاد عليها كان قصاصا).
وقال ابن الحاج في “المدخل” : “ولا يزيد على ثلاثة أسواط شيئًا، بذلك مضت عادة السلف رضي الله عنهم، فإن اضطر إلى زيادة على ذلك، فله فيما بين الثلاثة إلى العشرة سعة” اهـ.
وقال عبد الحميد الشرواني الشافعي في حاشيته على “تحفة المحتاج” : ” قال بعضهم: ولا يتجاوز الضارب ثلاثا، وكذا المعلم فيسن له أن لا يتجاوز الثلاث .
” انتهى.
القول الثاني :
ان المؤدب له ان يضرب الطفل عشرة اسواط اذا دعت الحاجة الى ذلك .
واستدل اصحاب هذا القول بحديث أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ” . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية للبخاري :” لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حدٍّ من حدود الله ” .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
فقوله صلى الله عليه وسلم : ” لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ” يريد به الجناية التي هي حق لله .
فإن قيل : فأين تكون العشرة فما دونها إذ كان المراد بالحد الجناية ؟ .
قيل : في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره , للتأديب ونحوه , فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط ; فهذا أحسن ما خُرِّج عليه الحديث . اهـ. من ” إعلام الموقعين “.
***
القيد الثالث : ان الضرب لا يكون مبرحا ولا مؤذيا؛ ولا مدميا ٠
لما روى الطبراني في “المعجم الكبير” من حديث عصمة بن مالك الخطمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلَّا بِحَقِّهِ».
وبوب عليه الإمام البخاري في “صحيحه” بقوله: (باب ظهر المؤمن حِمًى إلا في حدٍّ أو حق).
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: (“حِمًى” أي مَحْمِيٌّ معصوم من الإيذاء، قوله: “إلا في حدٍّ أو في حق” أي لا يُضرَب ولا يُذَلُّ إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبًا) اهـ.
واذا كان ظهر المؤمن محميا من الإيذاء إلا بحق ؛ والحق هو العقوبة على الجرم ؛ فان هذا الاستثناء لا يشمل الصبي ؛ لانه غير مخاطب بفعل الواجبات وترك المحرمات ؛
من حيث الوجوب والحرمة ؛ بل هو مخاطب بها من حيث الندب الكراهة ؛ فالمحرم بالنسبة له مكروه ؛ والواجب بالنسبة له مندوب ؛ كما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال : ( نعم ولك أجر ) .
ولهذا قال سيد عبد الله في مراقي السعود:
قد كلف الصبي على الذي اعتمي
بغير ما وجب والمحرم.
فالصبي لا يستحق العقوبة لانه لا يخل بواجب ولا يفعل محرما .
ولهذا لما جاز ضربه عند العاشرة لترك الصلاة اعتبر بعض الحنابلة ان الصلاة تجب على من بلغ عشرا
لأن العقوبة دليل على وجوبها عليه.
فلا يجوز ان يعاقب الصبي عقوبة تعزيرية مثل فاعل المنكرات؛ وانما يؤدب برفق ولين .
ولهذا نص أهل العلم على انه لا يضرب ضربا مبرحا ..قال العلامة ولد ميابه في نظم نوازل الشيخ سيدي عبدو الله :
وجاز ضربه الصبي ان عصى
غير مبرح بسوط او عصا .
والضرب غير المبرح هو الذي لا يشق جلدا والا يكسر عظما ولا يشين لحما .
وقال الونشريسي في “المعيار” : “وصفة ضربه ما لا يؤلم ولا يتعدى إلى التأثير المستبشع أو الموهن المضر”. ا. هـ.
وقال القرطبي عند تفسير آية النشوز: والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير ،
فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والادب . انتهى
و لا ينبغي ان يجعل الضرب المبرح وسيلة للإصلاح ؛ لانه لا يجوز ؛ ولان ضرره اكبر من نفعه ..
يقول العز بن عبد السلام: « فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرح، فهل يجوز ضربه تحصيلًا لمصلحة تأديبه؟ قلنا: لا يجوز ذلك؛ بل يجوز أن يضربه ضربًا غير مبرح؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد، لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد».قواعد الاحكام في مصالح الانام ج١، ص: ٨٣.
****
القيد الرابع :
ليس كل موضع من الجسد يجوز ضربه فينبغي للمؤدب اذا اراد الضرب ان يتجنب مواضع الجسد التي لا تتحمل الضرب مثل الراس وما واجه من العظام.
وفي بعض الامثلة الشائعة عند الناس :
قول الأهل لمعلم الطفل: «لك اللحم ولنا العظم»، يعنى: اضرب الولد ضربًا يؤلم الجلد، ولا تكسر له عظمًا.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجنب ضرب الوجه ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ» رواه البخاري ومسلم. من حديث أبي هريرة.
وقد علق النووي على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم بقوله :
(قال العلماء : هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه ; لأنه لطيف يجمع المحاسن ، وأعضاؤه نفيسة لطيفة ، وأكثر الإدراك بها ; فقد يبطلها ضرب الوجه ، وقد ينقصها ، وقد يشوه الوجه ، والشين فيه فاحش ; ولأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره ، ومتى ضربه لا يسلم من شين غالبا ، ويدخل في النهي إذا ضرب زوجته أو ولده أو عبده ضرب تأديب فليجتنب الوجه) .
***
القيد الخامس :
الضرب هو الوسيلة الاخيرة فلا ينبغي ان يجعل وسيلة للاصلاح الا بعد اتخاذ جميع الوسائل ؛ وهذا هو الذي اشار اليه قوله تعالى :
{وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ}.
قال ابن كثير :
(وَقَوْلُهُ: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ أَيْ: إِذَا لَمْ يَرْتَدِعْن بِالْمَوْعِظَةِ وَلَا بِالْهِجْرَانِ، فَلَكُمْ أَنْ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ).
وقد قيل : “آخر الدواء الكي”.
وقد نقل الحطاب عن ابن عرفة قوله :
(وعليه ان يزجر المتخاذل في حفظه بالوعيد والتقريع لا بالشتم كقول بعض المعلمين للصبي : ياقرد
..ياعفريت! فإن لم يفد القول انتقل للضرب).
وفي ذلك ايضا يقول ابن الحاج في المدخل :
“فصل: ما يأمر به المؤدِّب الصبي من الآداب”: “ومن تخلَّف – من التلاميذ عن واجبه – لغير ضرورة شرعية قابلهُ بما يليق به، فربَّ صبي يكفيه عبوسةُ وجْهِهِ عليه، وآخر لا يرتدع إلا بالكلام الغليظ والتهديد، وآخر لا ينـزجر إلا بالضرب والإهانة، كلٌّ على قدر حاله…” انتهى.
اخيرا : ينبغي لمعلم القرآن ان يتعلم احكام التعامل مع الصبيان الذين يدرسهم ؛ ومتى يجوز له ضربهم ومتى لا يجوز ، حتى لا يقع منه تعد على الغير بسبب الجهل.
والله اعلم .
كتبه :
محمد الامين ولد آقه.