أثار بلاغٌ لمعهد المهن المحظرية الخاضع لوصاية وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي -حول مسابقة لاكتتاب تلاميذ متدربين من خريجي المحاظر- كثيراً من السخرية واللغط من قبل رواد السوشيال ميديا في موريتانيا مستغربين ومستهزئين ومستنكرين أحياناً.
معتبرين بأن العمل اليدوي أصبح متجاوزاً، وأنه من الأفضل الحصول على شهادات جامعية، وهو أمر لا يتناقض، إلا أن الحصول على البكالوريا أو الشواهد الجامعية لا يعتبر امتيازا في حد ذاته، خاصة إن رمى بصاحبه في بئر البطالة السحيقة وأصبحت شهاداته المعلقة على الجدران عائقا أمام ممارسته لحرفة يمكنه من خلالها الكسب والعيش، بدل انتظار وظيفة على مقاسه، كما تنتظر الفتاة فارس احلامها الذي تتغير مواصفاته مع تقدمها في السن.
لقد تضمن بلاغ معهد المهن المحظرية اختباراً للمتقدمين لهذا التدريب في القرآن والحديث والفقه واللغة، من أجل دمجهم في سوق العمل، واعتبر المثبطون بأن الأمر لا يتناسب مع خريجي المحاظر اللذين تلقوا هذه العلوم الدينية، وأنها في واد والمهن اليدوية في واد آخر.
لكنهم “لا يعملون” أن الأمم ارتقت من خلال المهن والتدريب، والتكوين الحرفي ومن ثم تطور مجال البحث العلمي والتقني.
في بريطانيا مثلا يعد سائق التاكسي من أهم المهن وارفعها London cab، كما يسمى السباك مهندسا، وفي اليابان يضعون تمثالا في طوكيو لعامل النظافة باعتبارها مهنة هامة للمجتمع.
و جماعتنا لا “يفقهون” بأن سجية الأنبياء العمل بأيديهم، ولا ينتظرون أن تخلع عليهم الأعطيات والهدايا بل كانوا اهل حرفة لإعمار الأرض ونفع الناس.
كما أن أشراف العرب كانوا كذلك أهل صنعة، حيث أن الوليد بن المغيرة كان حدادا وهو والد الصحبي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يعيره القرشيون وأهل مكة بأن والده كان حدادا بل كان من اشرفهم منزلة وأرفعهم مكانة في الجاهلية.
وقد كان من بين الصحابة و الفقهاء والقراء الخياط والحائك والحداد والبناء وغيرهم، ولنا أن نستحضر القارئ محمود خليل الحصري الذي اطلق عليه لقب الحصري لأنه كان يعمل في صناعة الحصير ومثله كثير.
فكل من ارتقت به نفسه عمل من كسب يده بعيداً عن التمائم و النفث في القوارير والكرامات المزعومة، و “الولاية والصلاح” لاستدرار الجيوب وأخذ الهدايا والأعطيات بحجة المساعدة في التداوي والحصول على الوظائف والامتيازات.
بعيدا عن توظيف النسب والحسب وميراث الآباء والأجداد، فمن أبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، وليس هناك أرفع منزلة من الذين اصطفاهم الله لرسالاته.
فلا قيمة للإنسان بدون العمل والمشقة والاجتهاد في الخير، وقد أولى الإسلام عناية خاصة بالعمل والكسب الحلال.
ولنا أسوة في الأنبياء –وهم أشرف الخلق- حيث أنهم عملوا وكسبوا أقواتهم من كدحهم ولم يشغلهم ذلك عن تبليغ رسالة رب العالمين وهداية الناس للطريق المستقيم.
فقد عمل خاتم الأنبياء صل الله عليه وسلم في رعي الغنم، وكذلك عمل كليم الله موسى راعياً لغنم شعيب عليه السلام، وعمل نبي الله إبراهيم وإسماعيل في البناء، وعمل نوح وزكريا في النجارة، وعمل داوود حداداً، وعمل إلياس في الغزل والنسيج، وعمل إدريس في الخياطة والحياكة.
بينما يترفع أهل موريتانيا عن المهن اليدوية، ويصنفون طبقة كبيرة من المجتمع على أساس أنها تعمل في الحرف اليدوية، ولعلها من أشرفهم كسباً، كما أن مهنة في اليد خير من ميراث الجد.