كتابنا

و من الرعب ما……/ صلاح الدين الجيلي

ليلة البارحة خُضت مغامرة قد يعتبرها البعض عادية جدا, لكني و بمشيئة الله, لن أكررها, كما أني لن أنساها ما حييت.
الشركة التي أعمل بها , أرسلت لنا مهندسا أجنبيا ستتم مبادلته بآخر على ظهر سفينة في عرض البحر , قبالة ميناء نواذيبو , و أرسلت معه إداريا يعمل في مقر الشركة الرئيس , و هو صديق وزميل من الفُلان , طيب جدا و على خلق حسن , ويتكلم الحسانية أفضل مني , كان علينا تأجير زورق صغير ليأخذنا لوجهتنا , و فعلا اتجهنا لميناء الصيد ( آرتيزانا ) و اتفقنا مع أحد قادة المراكب على الأجرة و انطلقنا , حال انطلاق القارب , تفاجأت بأني لم أشعر بأي خوف يعتريني , و في نفس الوقت تذكرتُ قسما قديما كنتُ قد قطعتهُ على نفسي بأن لا أركب البحر مرة أخرى , كان ذلك على إثر حادث قديم نجاني الرحيم الكريم منه , و على كل حال , لستُ من الذين يخشون البحر , فحبي له كبير جدا , كما أني قد أُعدُ من السباحين المهرة , لكنها أول مرة أركب فيها زورقا يُحاكي نُحول الهلال الوليد .
سار المركب بنا بانسيابية ممتعة ناعمة , و طفقتُ مع زميلي و الذي كان فرحا بتجربته الأولى نتبادل الحديث عن العمل و الشركة و مسار الرحلة و هل سيكون بديل مرافقنا جاهزا حتى لا يؤخرنا فنضطر للرجوع ليلا .
شيئا فشيئا أصبح الزورق يتأرجح يمينا و شمالا و كأن قائده فقد السيطرة عليه , لكنه طمأننا بأن ذلك طبيعي جدا و أن الإنسيابية في سيره تغيرت لأننا كنا نسير في كنف الميناء و قد خرجنا منه , ما هي إلا دقائق حتى أصبح الحال حالا آخر , سكت الكلام عن الكلام و تمنعت الحروف من التشكل , و بلغت القلوب الحناجر , المهندس الفلبيني , كان كلما قفز القارب , تشبث بالمسند العمودي مبتسما ابتسامة ثقة ليست في محلها , كأنه يريد أن يقول لنا بأنه إبن البحر و بأن زورقا صغيرا لن يُبدد كبريائه , أما صديقي و زميلي فقد بدأ في قراءة القرآن تارة بقراءة ورش و تارة بقراءة حفص و لا أدري هل كان يعي التبدل الحاصل في موجته , إذ وصل به الأمر لقراءة آية بقراءة ورش و التي بعدها بقراءة حفص , ثم يستمر في قراءة واحدة , و يبدلها مباشرة كلما طار الزورق , تمعنتُ في السر وراء ذلك ,و قلتُ في نفسي لعله حجاب عظيم , سيقينا شر ما نحن فيه , فسكتُ عنه , وحده قائد المركب كان على هدوء غريب و رباطة جأش عجيبة , حتى قفزات المركب لا تزحزحه من مكانه ,بطول الرحلة تستقر سيجارة من ماركة كونجرس في فمه يمتصها و تمتص روحه , تبدوا العلاقة بينهما قديمة جدا , لم أرهُ يلمسها بيده بعد إشعالها مطلقا , يد على المقود و الأخرى على مسند أفقي على شكل قوس قريب من رأسه , فتبقى للسيجارة حريتها تتنقل من جانب فمه للآخر , فكأنه عود آراك في فم معمر له سن واحدة .
انتقل صديقي من القرآن, إلى تمتمات غير مفهومة, خاصة أن قوة ارتطام الزورق بالموج تضاعفت حدتها , كنتُ أجري حديثا متقطعا مع القائد , تدخل صديقي مقتربا برأسه من أذني صارخا , أنتَ اثركْ مانَكْ خايف , أجبته , أصل خايف يغير اشْلاهي انعدل , نظر في وجهي باستغراب شديد و أشاح عني ببصره واضعا وجهه بين يديه , خيل إلي أنه وضع قلبه بين يديه , لا وجهه .
حاولتُ مواساته , داريتُ خوفي , اقتربتُ منه و كدتُ أسقط لحظة انحراف من الزورق مفاجئة , تعثرت بحقائب المهندس , لكنها أوقفتني عن السقوط التام , عدتُ لمكاني ببطء , و عدت لمواساته و التخفيف عنه , لا أعرف ما قلته له تحديدا , و لستُ متأكدا أنه كان يُصغي لي , هي ذاتُ النظرة رمقني بها مرة أخرى , ثم طأطأ رأسه , في تلك اللحظة , سمعت قائد الزورق يقول , ذا لبحر الليلة اشفاكعو , ذا غريب ,,ما إن قالها حتى التفتُ لصديقي , كم حمدتُ الله على أنه لم يسمعه , لو سمعه لربما بكى وجلا و رعبا و هو موقف لا أحب و لا أتمنى رؤيته لرجل , اقتربتُ منه , حتى ظللتني غمامة من عود آراكه , طلبتُ منه أن لا يكرر ما قال , و أشرتُ بأن صديقي يكفيه ما فيه , تفهمني , مُرسلا زفرة قوية من سيجارته , اختلط دخانها بعادم المحرك فامتزجا برائحة لا أعتقدُ بأن هناك مصنعا له القدرة على مزجها , كيف يُمكن مزجُ الخوف و الترقب في معمل ما , ليعطي منتجا له هذه الرائحة التي لا فكاك منها , رائحة الأقدار و قوتها , رائحة تلاشي قوتك الآدمية , كأن خيوطها تغزل في داخلك زوايا من عدم تُفتش فيها عن ذاتك فلا تجدها , و تأخذك للتفكير في ماهية قوتك كإنسان , أنت لا شيئ , تعود بك لأصلك , حين لم تكن شيئا مذكورا .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى