كنت وعدت في وقت سابق بالحديث عن الفرق بين إنتاج المثل وإنتاج القيم .
وسبب اختياري لهذا التفصيل هو تسليط الضوء على الظواهر من حيث دوافعها وليس من حيث شكلها كممارسة أو سلوك .
وهذا منهج أسلكه كثيرا فيما أكتب ، وهو شبيه بما يعرف في البرمجة اللغوية العصبية (NLP ) بالعلاج بخط الزمن .
وهي طريقة تشبه الايحاء أو التنويم المغناطيسي تستحث الذاكرة للوقوف على دافع العقدة والموقف الذي ترسخت حوله .
واليوم سأخلع عباءة التقدير عن الغرور الذي ينتاب النخبة ، وسأكشف تجارة تأجيل الحلم وامتصاص الطاقة اللازمة للتقدم ، وأساليب الخطاب النخبوي في تشكيل الازمة واحتضانها ورعايتها والإطالة من عمرها .
وسأقوم كالعادة بالحديث عن المعضلة بلغة أكاديمية تتحلل تدريجيا في نهاية المنشور بلغة واضحة من المتداول المطروق ، وذلك من خلال موجبة الطرح كاقتباس لضرورة الشرح المبسط ( لذلك أنصح بإكمال قراءة المنشور )
وسأعرف المثل بعيدا عن الإصطلاح الفلسفي وبشكل مبسط على أنها الأفكار التي يمكننا النظر إليها على أنها ” ما ينبغي أن يكون ” ، أو شكل الغاية في حيز العقل .
يقول المثقف : إن الفساد ظاهرة سلوكية معقدة وذات دوافع نفسية ومادية ، وتعشعش في البيئات المتخلفة ويأنسها العقل المغيب باعتبارها فعلا في حيز آخر غير الذي يعنيه .
يقول الفقيه و الواعظ : أن سرقة المال العام والرشوة من أكبر المظالم للنفس والناس ومن أشدها خطرا على الدين والدنيا ، ويتوعد بعقوبتها يوم القيامة وبلوازمها من شغف العيش في الدنيا .
يقول طفل في الابتدائية : أن سبب الفقر والظلم والحرمان هو سرقة المال العام .
لافرق بين المقولات الثلاث ونظيراتها إلا من حيث اللغة المستخدمة أو الزاوية المختارة للنظر للظاهرة .
ولا فرق كذلك بين المفهوم العقلي لما ينبغي أن يكون عليه الحال في أذهان المعبرين .
فالتفاوت و التنوع ليس في الرأي ولا المؤمل وإنما في نوع المحتوى المعرفي من شخص لآخر .
فصاحب القلم البياني السيال يمكنه أن يعبر عن ما يجول بخاطر الأمي الجاهل ، وهذا فرق واختلاف في آلية التعبير من حيث الغنى المعرفي لا أكثر .
وبهذا التعريف يمكن القول ان المثقف لا يكتسب صفته بمعرفته للحق وإنما بفنيات وأدوات التعبير عن هذا الحق .
وبشكل أبسط هو ليس مثقفا أكثر من الأمي الجاهل وإنما أكثر منه قدرة على صياغة المثل التي يشتركان في امتلاكها ذهنيا ، وهذا ينطبق على الفقيه والشاعر وغيرهما ممن تسعفهم تقنية التعبير أكثر من غيرهم .
بهذا المعنى يكون كل إنسان مثقف وليس كل إنسان معبر عن ثقافته .
سقط المثقف من برجه العالي ليكون مجرد صاحب صنعة وهي التعبير كتابة أو حديثا .
وما يدور في أذهان الكل باختلاف محتوياتهم المعرفية ، هو ما يسمى بالمثل ( يدرك الحق بالفطرة والملكة الانسانية )
ومايكتبه المثقف ليس إنتاجا وإنما توظيف لكامن فطري يشترك فيه مع الكل ، وهذا ليس ما نحتاجة في حقيقة الأمر ، إذ ليس أكثر من تعبير عنا بحروف فلان الذي لا يمتلك حسا للحق غير الذي نمتلكه .
وهنا يكون المثقف شبيها بالشاعر الذي يعبر عن أحاسيسنا ويطربنا برص مشاعرنا في قواف وتفاعيل وأوتاد وفواصل ، وذلك لامتلاكه أدوات التعبير ليس إلا ( القصيدة لا تمنح الواقع صورة اخرى وإنما تجلو الاحساس به ) .
المثل لا تنتج كما يخيل إلينا من خلال انقيادنا للمعبرين عنها ، فهي فطرية ومدركة بالحس والملكة الإنسانيين .
ونحن ننخدع بتقديس المعبرين عن مدراكتنا الفطرية وننقاد لهم باعتبارهم مصلحين ، في الوقت الذي لا فرق بيننا وبينهم غير ما نرفعهم به وما ينتابهم من غرورو نتيجة لذلك .
ما ينتج هو القيم المتأصلة عن الحس الفطري ( المثل ) .
ماذا يعني ذلك ؟
حين تجالس شابا في السجن وقد استغل مال غيره سرقة أو احتيالا ، فلن تجده مفتقدا للمثالية من حيث إدراكها ، فهو يدرك أن السرقة فعل منحط وسلوك بغيض وغير إنساني .
لذلك حين تعظه فأنت تسدي وقتك للضياع ، وتسقى أرضا مرتوية ، لأن ما دفعه للسرقة هو سلوك أو حاجة ما وليس عيبا في هندسته المثالية .
وعظ هذا السارق وتذكيره بحرمة فعله يشيه إلى حد التطابق ما يتحفنا به أصحاب الأقلام والأكاديميون قي كتاباتهم وندواتهم ومحاضراتهم .
إنهم يحصلون الحاصل من خلال تقنينه لغويا أو خطابيا ليشنفوا به آذاننا المستمتعة بالبيان والإلقاء وليس بعبقرية ولا تميز المحتوى .
إنهم كمن ” يرفد لحجار للكدية ” ورب عاشق ترنم بشاعر وهو أرق منه شعورا وأندى عشقا .
كل ما سبق كان حديثا عن المثل وخدع تعاطيها وأساليب استغلالها لخلق طبقات إنسانية أخطر من الطبقات العرقية في المجتمع العرقي وأقل إنسانية .
فسواد السيد من خنوع المسود وليس لذات سيادة في السيد .
مانحتاجه هو انتاج القيم وليس تكرار المثل وتلحينها ، وتحريك رواكد الواقع من خلال تثقيف المثل وتحريكها كقيم تتخلل وعينا وتحركنا وتعود علينا بمردود واضح وملموس .
القيم تنتج وتغير ويعاد إنتاجها ، وذلك هو الرهان المستساغ إتيانه والعمل عليه .
فالفاسد يفلت من المثالية بسهولة بالغة بينما تردعه القيم حين تكون حية ومواجهة وواضحة .
وقبل أن تدب القيم على أديم الواقع تكون القوانين مجرد شكل مرمز لغويا للمثل .
هل تتوقعون ان يقول أب لولده الوزير ـ حين يستفحل غناه في فترة وجيزة ـ ” ما هكذا علمتك ولا ربيتك ، أو حد الله بيني وبين مالك ” ؟
هل تتوقعون أن تقول الزوجة لزوجها المدير ” معاذ الله أن آكل أوأطعم أولادي حراما ” ؟
هل تتوقعون أن تستقل الإرادة بولد عن والده لدرجة تمكنه من انتقاد فساده الشاهد عليه ؟
هل تتوقعون أن تتبرأ القبيلة من إبنها السارق بدل أن تحميه وتقيم الدنيا على من تقدم لمحاسبته ؟
بالطبع أعتقد أنكم لا تتوقعون حدوث شيء من ذلك .
لكن أب الوزير وأمه وزوجة المدير وإبنه وأنتم مشتركون في مثالية راسخة تتعلق بالسرقة والفساد .
لكنكم جميعا تفلتون من قيد المثالية ( الانسانية ، الدين ، الأخلاق .. الخ ) وتتمترسون خلف القيم التي تبسط هالة الخزي وتشفف قتامة السلوك .
القيم هي التي تستهلك الفاسد وتنعم به وتحميه وتتجاهله .
كيف نعيد إنتاج القيم وإحياء مواتها وربطها بالمثل ؟
ذلك ما سأجيب عنه مفصلا في المنشور القادم ( إذا لم تقرصن الصفحة )
ولا تنتظروا مني أن أتحدث عن التوعية وصناعة الوعي فأنا لست عاطفيا ولا شاعرا ولا مثقفا .