الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نص الءسسفتوى : (أيما جماعة تصح بها الجمعة جاءت للمسجد يوم الجمعة في صلاة الظهر أو في صلاة العصر ، فقد وجبت عليها الجمعة ، وإذا لم تصلها تكون صلاتها للظهر والعصر فاسدة، لأن وقت الجمعة يبدأ من الزوال إلى الغروب ، فلا ينبغي للناس أن يأتوا إلى المسجد بعد الزوال إلى غروب الشمس )انتهى نص الفتوى.
وتعليقا على هذه الفتوى نقول :
لا ينبغي أن تصحح هذه الفتوى إلا إذا كان العذر المانع من أداء الجمعة عذرا واحدا هو (العجز عن الاجتماع)، وحينها.. يكون الاجتماع لصلاة الظهر أو صلاة العصر مسقطا للعذر المانع من صلاة الجمعة فيتعين أداؤها ، إن لم يوجد عذر آخر .
وأما إن أمكن الاجتماع ووجدت أعذار أخرى فإن صلاة الظهر والعصر تكون صحيحة، لأن الجمعة غير واجبة لوجود هذه الأعذار.
وفي أيامنا هذه تكون صلاة الظهر والعصر صحيحة ولو اجتمع الناس في المسجد لأن المانع من أداء صلاة الجمعة عذران:
الأول : الخوف من عقوبة السلطة .
والثاني : تجنب مخالفة السلطان.
أما العذر الأول وهو الخوف من عقوبة السلطة: فهو من الأمور التي نص المالكية على أنها تسقط وجوب الجمعة ..
وفي ذلك يقول الشيخ خليل في المختصر : “واستؤذن إمام ووجبت إن منع وأمنوا وإلا لم تجز”
قال الدرديري : “(واستؤذن إمام) أي سلطان ندبا في ابتداء إقامتها فإن أجاب فظاهر (ووجبت) إقامة الجمعة (إن منع) من إقامتها (وأمنوا) على أنفسهم منه (وإلا) بأن لم يأمنوا إن منع (لم تجز) بضم أوله وسكون ثانيه من الاجزاء أي لم تصح” الشرح الكبير للدردير (1/ 384).
فبان بهذا أن الخوف من عقوبة السلطة مسقط للجمعة ..
وقد منعت السلطة صلاة الجمعة منعا شديدا..وتساهلت في إقامة الصلوات الخمس ..
لأن لاجتماع للجمعة اكثر ضررا من الاجتماع للصلوات الخمس .
ونحن حين نجتمع لصلاة الظهر يوم الجمعة فلا يعني ذلك أننا قادرون على أداء صلاة الجمعة، بل نحن ممنوعون منها بأمر السلطة.
فيمكن أن يجتمع الناس في المسجد يوم الجمعة ويصلوا الظهر ويتركوا صلاة الجمعة لخوفهم من أدائها ..
قال الحطاب : (ووقعت مسألة من هذا المعنى بقرطبة وذلك أنه غاب الأمير وكان محتجبا لا تستطاع رؤيته فأفتى يحيى بن يحيى أن يجمع الناس ظهرا وأفتى ابن حبيب أن يصلوا أفذاذا فنفذ رأي يحيى بن يحيى فخرج ابن حبيب من المسجد وصلى وحده فاستحسنه ابن زرب وقال إنه مذهب المدونة قلت: ومحمل المسألة على أنهم خافوا أن يقيموا الجمعة مع غيبته وهو بين واضح ). مواهب الجليل (2/ 542)
فها أنت ترى أن الإمام يحيى ابن يحي صلى بالناس الظهر يوم الجمعة في الجامع خشية مخالفة السلطان، ولم يتخلف إلا ابن حبيب وحده.
ولم يتخلف لأن حضور المسجد يوجب الصلاة على المعذورين !
وإنما تخلف مراعاة لقول :أن من فاتته الجمعة من أصحاب الأعذار النادرة لا يصلى الظهر جماعة ..
وفي ذلك يقول الحطاب : (من تخلف عن الجمعة لغير عذر غالب المشهور أنهم لا يجمعون إلا أنهم إن جمعوا فاختلف فيه فروى يحيى عن ابن القاسم في أول رسم من هذا الكتاب أنهم يعيدون وقال ابن القاسم في المجموعة أنهم لا يعيدون وقاله أصبغ في المتخلفين من غير عذر وهو الأظهر إذا قيل إنهم يجمعون وإن كانوا تعذروا في ترك الجمعة فلا يحرموا فضل الجماعة انتهى. مواهب الجليل(2/ 541)
وهذه الواقعة التي حدثت ليحي ابن يحي وابن حبيب تكررت أيضا مع ابن القاسم وابن وهب ، واختلفوا لاختلاف نفسه للسبب نفسه ..!
وقد ذكر المواق هذه القصة فقال :
(قال ابن القاسم: كنت مع ابن وهب بالإسكندرية ومعنا ناس فلم نحضر الجمعة لأمر خفناه فقال ابن وهب : نجمع ، وقلت أنا : لا ، فألح ابن وهب فجمع بالقوم وخرجت أنا عنهم فقدمنا وسألنا مالكا فقال : لا تجمعوا .) التاج والإكليل (2/ 254).
ولو سلمنا بصحة هذه الفتوى التي تبطل صلاة الظهر والعصر باجتماع الناس يوم الجمعة لأفسدنا صلاة يحي ابن يحي وابن وهب ، وهو ما لم يدعه ابن حبيب وابن القاسم المخالفين لهما !!
**********
وأما العذر الثاني وهو تجنب مخالفة السلطان: فقد نص شراح المختصر على وجوب الالتزام بأمره إذا منع الجمعة اجتهادا لا ظلما ..
يقول الحطاب ناقلا عن الطراز : (فإذا نهج السلطان فيها منهجا فلا يخالف ويجب اتباعه كالحاكم إذا حكم بقضية فيها اختلاف بين العلماء فإن حكمه ماض غير مردود ; ولأن الخروج عن حكم السلطان سبب الفتنة والهرج وذلك لا يحل وما لا يحل فعله لا يجزئ عن الواجب انتهى, ) مواهب الجليل (2/ 542)
ثم علق الحطاب بقوله : (وهذا التوجيه الذي ذكره جار فيما إذا أمنوا فتأمله) مواهب الجليل (2/ 542).
وهذا يقتضي أنه في حالة أمن العقوبة يمكن ان تسقط عنهم الجمعة !
وقد بين الخرشي هذه الحالة بقوله ناقلا عن بعض أشياخه : (هذا يقتضي أن المنع صدر عن اجتهاد لا عن تمرد وعناد) انظر الخرشي (5/ 206)
فتحصل مما نص عليه المختصر وشراحه ، ان الجمعة إذا منعها السلطان تسقط في حالتين :
إذا كان الناس يخافون عقوبته ، وإذا كان منعه ناشئا عن اجتهاد من اجل المصلحة او الضرورة.
وهذا الذي ذكره شراح المختصر هو الذي يستقيم مع مسألة “استحباب استئذان الإمام لإقامة الجمعة” ،أذ كيف يكون استئذان الإمام في إقامة الجمعة مندوبا ومخالفة منعه واجبة على الإطلاق؟ ..هذا لا يستقيم !!!
وحتى لو لم ينص الشراح على هذا الأمر ، فإن القواعد العامة للشريعة دالة عليه ..
فقد دلت قواعد الشريعة على أن الجمعة تسقط للضرورة عن الأفراد..
وفي ذلك دليل على انها تسقط للضرورة عن العامة..
والسلطة هي المرجع في تحديد الضرورة المتعلقة بالعامة ، فيجب اتباعها إذا منعت صلاة الجمعة من أجل المصلحة .وعليه فسواء اجتمع الناس في المسجد أو لم يجتمعوا فإن الجمعة لا تجب عليهم ، وإن صلوها فصلاتهم باطلة .
أضف إلى ذلك أن اشتراط إذن الإمام قول موجود في المذهب المالكي ومروي عن الإمام مالك..!
قال ابن رشد : ( وقد روي عن يحي بن عمر أنه قال: الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف مخالفته، وهو قول عمرو بن العاص، رضي الله عنه. روي أن قوماً أتوه فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة، فقال هيهات لا يقيم الجمعة إلا من أخذ بالذنوب وأقام الحدود وأعطى الحقوق.) البيان والتحصيل (1/ 450)
وقال ابن رشد أيضا :(وفي المبسوط لمحمد بن مسلمة أنه لا يصليها إلا سلطان أو مأمور أو رجل مجمع عليه، وهو قريب من ذلك كله خلاف المعلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها،.) البيان والتحصيل (1/ 451).
وهذا الذي أشار إلى أنه في المدونة نصه:
(قال: وقد سأله أهل المغرب عن الخصوص المتصلة وهم جماعة واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت، وقالوا ليس لنا وال؟ قال: يجمعون الجمعة وإن لم يكن لهم وال.
قال: وقال مالك في أهل مصر أو قرية يجمع في مثلها الجامع مات وليهم ولم يستخلف فبقي القوم بلا إمام؟ قال: إذا حضرت صلاة الجمعة قدموا رجلا منهم فخطب بهم وصلى الجمعة.
قال مالك: وكذلك القرى التي ينبغي لأهلها أن يجمعوا فيها الجمعة لا يكون عليهم وال، فإنه ينبغي لهم أن يقوموا رجلا فيصلي بهم الجمعة يخطب ويصلي. وقال مالك: إن لله فرائض في أرضه لا ينقصها شيء إن وليها وال أو لم يلها نحوا من هذا يريد الجمعة.) المدونة الكبرى (1/ 233).
والذي يظهر والله أعلم أن قول ابن رشد رحمه الله بأن ما نقله يحي بن عمر، وما قاله محمد بن مسلمة مخالف للمنقول عن مالك في المدونة ،قد لا يكون لازما ..!
بل إنه يمكن الجمع بينهما ..لأن مالكا سئل في المدونة عن قوم لا إمام لهم ، أو قوم غاب إمامهم ..
واما إذا كان الإمام موجودا حاضرا فهذه الحالة يمكن أن نحمل عليها قول يحي بن عمر: “الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف مخالفته”.
وقوله: “أجمع عليه مالك وأصحابه” يدل على أن القول باشتراط إذن الإمام له جذور بعيدة في المذهب المالكي!
ويقرب من هذا ما نقله القرافي : (قال سند واذا لم يشترط فلو تولاها لم يجزأن تقام دونه إلا إذا ضيعها قال مالك لو تقدم رجل بغير إذنه لم تجزهم لانه محل اجتهاد فإذا رتب الحاكم فيه شيئا ارتفع الخلاف أما اذا ضيعها سقط اتباعه فلو لم يتولها السلطان استحب استئذانه مراعاة للخلاف في إذنه..) الذخيرة (2/ 334)
وقال المواق نقلا عن اللباب: (وعلى المشهور من قول مالك إن إقامتها لا تفتقر لسلطان فإنه إن تولاها السلطان لم يجز أن تقام دونه) التاج والإكليل (2/ 255).
ولا شك أن السلطة اليوم مشرفة على إقامة الجمعة، وكل أمام يرخص له في إقامة الجمعة فهو نائب عن السلطة في إقامتها ، فلا ينبغي أن تقام هذه الجمعة إلا بإذن الإمام .
********
وفي الختام ..أود التنبيه على ملاحظتين :
الملاحظة الأولى:
كان ينبغي الإشارة في هذه الفتوى إلى الخلاف المذهبي في صحة صلاة من صلى الظهر والجمعة واجبة عليه وهو قادر على أدائها ..
أما الجزم ببطلانها فهو بعيد من الدقة !!!
قال القرافي : (قال ابن القاسم في الكتاب : من وجبت عليه الجمعة فصلى ظهرا في بيته لا يجزيه، قال سند قال ابن نافع يجزيه لأنه لو أعاد لأعاد أربعا..) الذخيرة (2/ 352).
وكذلك نقل ابن رشد الخلاف في من صلى الظهر قبل الجمعة على ألا يأتي الجمعة في وقت لو مضى إلى الجمعة لأدركها ..
فقيل إن الجمعة عليه واجبة ، ويعيدها ظهراً أربعاً ، لأن الصلاة الأولى بطلت ، وقيل إن صلاته صحيحة وهو قول ابن نافع. انظر : البيان والتحصيل (2/ 11).
وقال ابن رشد في موضع آخر: (وقد روى ابن وهب عن مالك في من نظن أن الصلاة يوم الجمعة قد صليت ، فصلاها في بيته ظهارً أربعاً ثم مر بالمسجد فوجد الناس لم يصلوا ، فجهل فمضى لحاجته ولم يصل معهم ؛ أرجو أن تجزئ عنه صلاته .) البيان والتحصيل (2/ 158).
الملاحظة الثانية:
اشتملت الفتوى على أمر محظور !!! وحيلة غير مشروعة !!
وهي دعوة الناس إلى عدم الذهاب إلى المسجد في صلاة الظهر وصلاة العصر !
وهذه دعوة إلى الهروب من الواجبات الشرعية ..
سوف يفهم الناس منها أن تخلفهم عن الجمعة الواجبة يسقطها عنهم ..وهذا باطل !
وإنما كان ينبغي تبيين الحكم الشرعي الذي يراه المفتي ، وأن يقول للناس : من كان منكم يستطيع الوصول إلى المسجد فليذهب إليه ، فإن استطاع أن يصلي صلاة الجمعة ولم يمنعه منها مانع شرعي فليصلها ..
وإن لم يستطع أن يصليها، أو استطاع ولكن منعه مانع شرعي فليصل الظهر بدلا منها ..
أما حين يكون الناس قادرين على أداء صلاة الجمعة، وليس لديهم مانع شرعي، فلا يسقطها عنهم تخلفهم عن المسجد ، بل يكونون آثمين بتركهم للجمعة ،وآثمين بتخلفهم عن المسجد !!!
والله أعلم ،والحمد لله رب العالمين.
كتبه محمد الامين ولد آقه
بعد صلاة العصر في مسجد جماعة
يوم الجمعة 27 شوال 1441هـ.