كتابنا

الركض الجنوني إلى الوراء !/ مولاي عمر

يُتداولُ مؤخرا حديث حول صدور فتوى “تحرم” تمدرس الإناث في “النباغية”!
الأمر صادم ومفزع! وعلى الدولة الاضطلاع بمسؤولياتها، فنحن أمام استنساخ لتاريخ من التأويل البدوي القاصر لتعاليم المنظومة الشرعية وتوجيهاتها.
بل هو استحضار لشريط الجاهلية الأولى التي كانت فيها المرأة ضربا من المتاع، وكان المواليد من الإناث يفتحن – في تصور العقلية المكتظة بالغبار والجفاف – أبوابا للعار ينبغي أن يتم إغلاقها عبر “استراتيجية” الوأد، التي تفضح بلاهة التفكير المحرك لها. إذ كيف يحدَّد المستقبل بمجرَّد الاحتمال، وتُحرم نفس من حيز من الأوكسيجين والوجود منحته لها السماء ! أم كيف يُحصرُ العار في الأنثى دون الذكر في السياق المبرِّر لجريمة الوأد وما يرتبط بها من الانتهاكات التي يقف خلفها الدافع ذاتُه !
لقد جاء الإسلام محرِّرا المرأةَ، غير مميز بينها وبين الرجل إلا في إطار توزيع المسؤوليات والوظائف الوجودية والاجتماعية، وليس في مضمار تفضيل قيمي ولا بيولوجي لأحد الطرفين على الآخر.
طبق الرسول ذلك بامتياز، لكن التحولات الكبرى التي شهدها الإسلام بعده، خاصة في النصوص الفرعية، والتي لم ينج منها النص المركزي إلا لتكفل مُنزِله بحفظه، جعلتنا نعيدُ تدوير التصور الجاهلي للمرأة ونقوم بتكييفه بطريقة حاذقة وماهرة في التنكُّر والمراوغة. فظهر “الضلعُ الأعوج” و”القوارير” و”العواني” و”الطريق الأوحد الذي يصلُ البيت بالقبر” …الخ

وهذه مجرد أمثلة ليست سوى عينة من مخزون ضخم من الانتقاص والدونية التي ضربت إطارا حول صورة المرأة، عبر تاريخ يبدأ منذ العصر الأموي حتى الساعة! وهو الذي حدَّد نمط النظرة إلى المرأة، ورسَّخ فهما مشوَّها لنظام المسلكيات الذي ينبغي أن تتبعه، والذي تكون فيه دائما دون الرجل وتحت سلطته، وتُحاكم بمنطقه وفي محاكمه ! بعيدا عن الله والرسول وإن استُحضرا افتراءً وتزويرا.

الله حارب الجهل، فأنزل “اقرأ” في أول مراحل الوحي، تأكيدا على أوليَّة المعرفة، ومجَّد العلم، وذمَّ الجهل بمختلف معانيه ودلالاته. لا شك أن الله لم يخصَّ الذكور بالرسالة كما رسخ لاشعوريا في أفهام المحرومين من نور الحق والحقيقة، فالإناث جزء من الكينونة الإنسانية، والخطاب لا يستثنيهن، بل إن تعلمهنَّ عامل رئيس في رغبة أبنائهن في العلم، وحثِّهم عليه ! مما يسهم بقوة في تعليم المجتمع.

فبأي حقٍّ، ونحن نحاول بصعوبة اقتلاع سيقاننا من وحل ذلك الوادي الأسودِ الممطوط عبر قرون، تخرج لنا، في مناخ الجهل السائد، والتسيُّب الخطابي والإفتائي، فتوى مفادها أن التمدرس يتنافى مع هدي الشريعة ! ترى إلى أي أساس استندت! وهل الفتوى بضاعةٌ مشاعة يسومُها كل من شاء ! أوليست لها ضوابط ! أيُفتى في كل أمر بما تبادر إلى النفس ووافق هواها!

على آباء أولئك البنات والفتيات أن يعوا تفاصيل الواقع، ووضعيةَ العالم، والمرحلة التي وصل إليها. لم يعد هنالك مكان للجاهلين ولا الجاهلات، هناك فقط في بعض دول العالم بقايا من عصور الفقر المعرفي ستتلاشى شيئا فشيئا. حتى في موريتانيا – رغم الوضع البائس- سينبذ الجهلُ يوما ما.
عليهم أن يدركوا أن المرأة الجاهلة لم تعد مرغوبة إلا للاستخدام المؤقت، وأن يفهموا أن الاتكالية النسائية التي كانت مهيمنة ستتعسَّر قريبا وقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر. فلا يضحُّوا ببناتهم، وليعملوا على توريثهن رأس مال لا يتعرض للنهب ولا الكوارث الطبيعية ولا غير الطبيعية، أعني المعرفة التي ستمكهنهن، كلما دعت الحاجة، من تحصيل ما يُساعدهن على خوض صراع البقاء.

أخيرا، على الدولة أن تنظم المنابر، وتقنِّن الخطاب الديني، أو تضبطه، وإلا خلقنا وعيا دينيا مرتبكا، وفتحنا أبواب التشبع بالفكر المتطرف، والوعي الزائف، واتجهنا – بسرعة الضوء – إلى الخراب والتفكِّك، على الصعيد الفكري والحياتي.

كل مسجد عامر بحراس الوهم وأدعياء الالتزام، الذين يشحنون عقول العامة بتوجُّهات سلبية ومتناقضة، ويقتلون فيها رغبة الحياة والتغيير، ويبثون فيها النفور من العمل والبناء، بالتمثيل المستمر لمشاهد الموتِ، وتصويره وهو يخرج – كالغول الأسود – من كل شيء! حتى تنحصر كل عمليات التفكير عندها في انتظار الرحيل والاستعداد للقبر، كأنها لم تُخلق لعمارة الأرض والإصلاح والمشاركة في نهوض الأمة وازدهارها ! ويطغى عندها توق عميق إلى العالم الآخر، فلا يظل منها في عالمنا إلا أجسامُها التي لا تساهم في البناء، وعقولها التي تحاربُه !

التصدي للخطابة والوعظ صار مجالا سائبا، وقد كان خاصا بالمؤهلين له، والذين يتفاضلون وفقا لمعايير مبثوثة بكثرة في كتب التراث، والفصاحةُ والمقدرةُ المعرفية شرط اتفاقي فيها. فما بال جل وعاظنا في المساجد وغيرها لم يؤتوا نصيبا من الفصاحة ولا العلم، يكررون الموعظة ذاتها (الموت /النار) في كل مقام ! وينشرون الفكر نفسه (التطرف/ الإقصاء).

الوعاظ وأغلب المفتين يلعبون دورا موحدا، ويستفيدون من فراغ تنظمي وقانوني خطير، فيعيثون في المجتمع فسادا معنويا لن يتم التخلص منه في المدى القريب.
وليست هذه الفتوى الأخيرة إلا انعكاسا بسيطا لذلك.
مولاي عمر / مولاي إدريس

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى