الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بوّبَ ابن أبي شيبة في المصنف فقال :
( من قال: لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه:
حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن شداد بن الأزمع ، قال : اعتكف رجل في المسجد الأعظم وضرب خيمة فحصبه الناس ، فبلغ ذلك ابن مسعود ، فأرسل إليه رجلا ، فكف الناس عنه وحسن ذلك.) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 91).
كما هو ظاهر من التبويب فإن سبب حَصْبِ الناس لهذا الرجل أنه اعتكف في مسجد لا يجمع فيه وذلك ممنوع عند بعض الصحابة ، فأنكر هؤلاء الناس عليه ورموه بالحجارة ، لكن ابن مسعود دافع عنه لأنه يرى صواب عمله ..
أما حين يقوم الناس ب”رمي الأحجار على المعتكفين في الدار” فلا أظن ابن مسعود سيدافع عن هؤلاء المعتكفين، لأنهم اتبعوا قولا شاذا لا أصل له ، ولربما ساهم مع الناس في رمي الحجارة عليهم !!
لا ينبغي لأهل العلم أن يضعوا أنفسهم في موقف حرج بتبنيهم للأقوال الضعيفة والآراء الشاذة !
ما فائدة العلم إن لم يكن واقيا لصاحبه من الوقوع في الشذوذ ومخالفة النصوص الصريحة و الاجماعات الصحيحة ؟
إن الأحكام الشرعية تستمد قوتها من صحة الدليل.. لا من مكانة القائل وشهرته..!!
لكن بعض العامة ممن يحسبون كل بيضاء شحمة، ولا يميزون بين فرحة المشتاق وابتسامة مضيفة الطائرة ..يجعلون أقوال الشيوخ نصا واجتهاداتهم وحيا !!
وإن سألتهم عن الدليل.. رمقوك بعيون النسور ..وقالوا : “قال الشيخ” !!!
و الفاجعة.. أن يكون من بين طلبة العلم من ينحو هذا النحو..!
وقد رأيت بعضهم يخادع نفسه ويحاول الدفاع عن القول بمشروعية الاعتكاف في البيت !!
فأردت بيان ضعف هذا القول وشذوذه، ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع !!!
وتذكير طلبة العلم بما نص عليه أهل العلم من اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف..
والرمي الذي قصدناه، رمي لا يفقأ عينا ولا يكسر سنا ، بل هو رمي بالأدلة والبراهين ، ليظهر الحق ، ويزهق الباطل ..
قال تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [الأنبياء: 18].
وابدأ الرمي باسم الله فأقول:
*********
الرمية الأولى:
قال تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة: 125].
هذه الآية دالة على اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف.
وجه الدلالة من الآية: أنها نصت على أن الاعتكاف محله المسجد ولم تذكر له محلا آخر.
وعبادة الاعتكاف لها أركان، و من أهم أركانها: المكان.. والشارع هو الذي يحدد هذا المكان لا غيره.
و قد حدد الشارع لعبادة الاعتكاف مكانا واحدا.. هو المسجد ..لم يذكر غيره.
فمن زعم أن عبادة الاعتكاف تصح في كل مكان، وغير مختصة بالمسجد.. فقد جاء بشيء مغاير لما جاء به الشرع!
الرمية الثانية:
قال تعالى : {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187].
دلت هذه الآية أيضا على اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف.
وجه الدلالة من الآية : ان العاكف في المسجد تحرم عليه المباشرة ..
و معنى هذا أن من كان عاكفا بغير المسجد لا تحرم عليه المباشرة، ومن لا تحرم عليه المباشرة فاعتكافه ليس اعتكافا شرعيا..
وهذا يعني أنه يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد.
وهذا المعنى صرح به غير واحد من المفسرين .
قال النسفي معلقا على هذه الآية :(وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد) تفسير النسفي (1/ 97،)
وقال الجصاص :
(وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف فالأصل فيه قوله عز وجل [وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد) أحكام القرآن ـ للجصاص ـ (1/ 301).
الرمية الثالثة:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “إن كان رسول الله ( ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً” متفق عليه.
وفي لفظ ابن خزيمة : ( أن عائشة كانت إذا اعتكفت في المسجد فدخلت بيتها لحاجة لم تسأل عن المريض إلا و هي مارة قالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الانسان و كان يدخل علي رأسه و هو في المسجد فأرجله ).
وفي هذا الحديث دليل على اشتراط المسجد للاعتكاف.
وجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم في حالة اعتكافه كان يتحاشى أن يدخل بجسده الى الحجرة الملاصقة للمسجد ، ولا يدخل البيت وهو معتكف إلا لحاجته ..
قال ولي الدين التبريزي معلقا على هذا الحديث :(وفيه إن الاعتكاف لا يصح في غير المسجد وإلا لكان يخرج منه لترجيل الرأس) : مشكاة المصابيح(7/ 304).
وفي هذا دليل على أن المكث في البيت يفسد الاعتكاف.. فكيف يستساغ القول بمشروعية الاعتكاف في البيت ؟
الرمية الرابعة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : { السُّنة على المعتكِف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع } ،أخرجه أبو داود والبيهقي وإسناده صحيح .
وهذا الحديث دال أيضا ، على اشتراط المسجد للاعتكاف .
وجه الدلالة من الحديث : قولها : {ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع}، فهذا تصريح بأن الاعتكاف لا يشرع إلا في المسجد.
وحديث عائشة هذا له حكم الرفع لأن قول الصحابي : “من السنة كذا ” له حكم الرفع كما قال في الألفية :
قَوْلُ الصحابيِّ ( مِن السنَّةِ ) أوْ ….نحوَ ( أُمِرْنَا) حكمه الرَفْع ، وَلَوْ
بَعدَ النبِيِّ قالَهُ بِأَعْصُرِ …………عَلى الصحِيحِ ، وهو قول الأكثَر.
الرمية الخامسة:
كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعن الصحابة من الاعتكاف فقد كان في المسجد، ولم ينقل عنهم الاعتكاف في البيت ولا الإقرار به..
فكيف يمكن بعد هذا ان يقال بمشروعية الاعتكاف في البيت ؟
الرمية السادسة:
القول بمشروعية الاعتكاف في البيوت مخالف لكل المذاهب المروية عن الصحابة !
وهذا بيانها :
1 – قول عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق : “… ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع” .
2-قول علي بن أبي طالب : ” لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ” ،أخرجه ابن أبي شيبة في ” المصنف ” قال : حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، به .وإسناده صحيح .
3-قول ابن عباس : ” لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة ” ،أخرجه البيهقي في ” السنن الكبرى ” من طريق : محمد بن أيوب، قال : أنبأنا مسلم بن إبراهيم، قال : حدثنا هشام، قال : حدثنا قتادة، عن ابن عباس، به . وإسناده صحيح .
4-عن ابي وائل قال: قال حذيفة لعبدالله يعني ابن مسعود رضي الله عنه : قوم عكوف بين دارك و دار ابي موسى لا تغير ( و في رواية: لا تنهاهم )؟! و قد علمت ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( لا إعتكاف إلا في المساجد الثلاثة). ؟! فقال عبدالله : لعلك نسيت و حفظوا, او أخطات و اصابوا …رواه البيهقي في (السنن) من طريق محمد بن آدم المروزي , كلاهما عن سفيان بن عيينة عن جامع بن ابي شداد .
قال الالباني : و هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين
فمذاهب الصحابة انحصرت في القول بمشروعية الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط ..
او في كل مسجد يجمع فيه..
اوفي كل مسجد تقام فيه الصلاة ..
والقول بمشروعية الاعتكاف في البيت يعارض كل هذه الأقوال ويتنافى معها جميعا ،بل ان جميع أقوال الصحابة تقتضي بطلان الاعتكاف في البيت!!
الرمية السابعة:
القول بمشروعية الاعتكاف مخالف للأجماع !!!
وقد يغتر سرعان القراء، ببعض العبارات الموجودة في المصادر الفقهية، مثل قولهم : “اختلف الناس في اشتراط الجامع للاعتكاف” ، وهذه العبارة قد يفهم منها وجود اختلاف بين العلماء في اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف ! وليس هذا هو المقصود من العبارة ..!!
بل المقصود منها التنبيه على خلاف العلماء في وصف المسجد لا في أصله.
ولهذا قال الطاهر بن عاشور عند قوله تعالى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المساجد} : (وأجمعوا على أنه لا يكون إلا في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لابد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله،)التحرير والتنوير (2/ 183).
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على اشتراط المسجد للاعتكاف، ومن أمثلة ذلك:
1-قال ابن عبد البر :(وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد لقوله تعالى {وأنتم عاكفون في المساجد}) الاستذكار (3/ 385).
2-قال القرطبي : (أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقوله تعالى :{فِي الْمَساجِدِ}) تفسير القرطبي (2/ 333)
3-قال ابن قدامة : (ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا والأصل في ذلك قول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فخصها بذلك) المغني (3/ 127)
4-قال ابن مفلح: (ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد” لا نعلم فيه خلافا لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}) المبدع شرح المقنع (3/ 9)
5-قال البهوتي: (فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف ؛لقوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }) كشاف القناع عن متن الإقناع (6/ 179).
وهذا الاجماع على عدم مشروعية الاعتكاف الا في المسجد جار في حق الرجل فقط ، أما بالنسبة للمرأة فقد اختلف أهل العلم : هل تعتكف في مسجد بيتها ؟ أم لا بد أن تعتكف في المسجد الذي تقام فيه الصلاة ؟
قال ابن عبد البر : ( قال مالك لا يعجبني أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها ولتعتكف في مسجد الجماعة ، وقال أبو حنيفة لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة ، وقال الثوري اعتكاف المرأة في بيتها أفضل من اعتكافها في المسجد ، وهو قول إبراهيم..) الاستذكار (3/ 399)
الرمية الثامنة :
القول بمشروعية الاعتكاف في البيوت يقتضي أن يكون تعريف الاعتكاف هو: (حبس النفس في أي مكان من أجل الطاعة والتعبد)!!
وهذا مخالف لجميع تعاريف الاعتكاف التي بذكرها الفقهاء واللغويون ، والمفسرون ..!!!!
فجميهم يذكرون في التعريف : اشتراط أن يكون الاعتكاف في المسجد !
ولم أقف على تعريف واحد للاعتكاف، لا يتقيد بهذا الشرط !!
ومن أمثلة هذه التعريفات :
1-جاء في المعجم الوسيط: ( الاعتكاف: الإقامة في المسجد على نية العبادة) المعجم الوسيط (2/ 619)
2-قال ابن عرفة في تعريف الاعتكاف : (لزوم مسجد مباح لقربة قاصرة بصوم معزوم على دوامه يوما وليلة سوى وقت خروجه لجمعة أو لمعينه الممنوع فيه) شرح حدود ابن عرفة (1/ 167)
3-قال العراقي في تعريف الاعتكاف: (المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة سمي بذلك لملازمة المسجد) طرح التثريب (5/ 157)
4-قال القونوي :(لاعتكاف: الاحتباس لغة، واللبث في المسجد مع الصوم والنية.)أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء (ص: 48)
5-قال القرافي في تعريف الاعتكاف : ( الاحتباس في المساجد للعبادة على وجه مخصوص) الذخيرة (2/ 534)
6-قال المناوي: (الاعتكاف الشرعي حبس النفس في المسجد عن التصرف العادي بالنية) التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 75).
7-قال الجرجاني : (الاعتكاف هو في اللغة المقام والاحتباس وفي الشرع لبث صائم في مسجد جماعة بنية) التعريفات (ص: 47)
8-قال البجيرمي : (الاعتكاف وهو لغة اللبث والحبس ،وشرعا اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية) حاشية البجيرمي على المنهاج (5/ 468)
9-قال بدر الدين العيني : (الاعتكاف الإقامة في المسجد واللبث فيه على وجه التقرب إلى الله تعالى)عمدة القاري (17/ 186)
10-قال الثعلبي: (والاعتكاف هو حبس النفس في المسجد على عبادة الله تعالى.)الكشف والبيان عن تفسير القرآن (2/ 81)
12- قال البيضاوي : (والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد القربة) تفسير البيضاوى ـ (1/ 470)
13-قال النووي: (وسمي الاعتكاف الشرعي اعتكافا لملازمة المسجد) المجموع شرح المهذب (6/ 474).
الرمية التاسعة:
الاعتكاف ليس شريعة خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل انه كان موجودا في الشرائع القديمة، ويدل على ذلك قوله تعالى : {وعهْدنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهرِّا بيتي لِلطائفينَ والعاكفين}.
و الأمم السابقة لم يكن في شريعتها التعبد خارج أماكن العبادة سواء تعلق الأمر بالصلاة أو الاعتكاف.
والمتأمل في القرآن يجد كل تعبدهم مصحوبا بذكر أماكن العبادة :
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]
{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37]
قال الخطابي : (وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون الا في كنائسهم وبيعهم)معالم السنن للخطابي (1/ 146)
وكانوا إذا أرادوا أن يعتكفوا، لا يعتكفون إلا في معابدهم وبيعهم وصوامعهم، ولا يعرف الاعتكاف في البيوت في شريعة من الشرائع…
وكان الاعتكاف معروفا عند العرب في الجاهلية ولم يكونوا يفعلونه في البيوت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء وهو التعبد في الليالي ذوات العدد.
ولما جاء الإسلام شرع الاعتكاف مخصوصا في مكان العبادة كما كان ، وجعل من شرط صحته ان يكون في المسجد .
بخلاف الصلاة التي خرجت عن الاختصاص في المسجد بقوله صلى الله عليه وسلم: “وجعلت لى الأرض طيبة طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل” رواه الشيخان.
الرمية العاشرة:
الحكمة من الاعتكاف لا تتناسب مع مشروعية أن يكون في البيت !
لأن الغرض من الاعتكاف هو البعد عن الناس واعتزالهم والتفرغ لعبادة الله عز وجل , وهذه الحكمة لا تتناسب مع البيت وإنما تتناسب مع المسجد وأماكن العبادة ، لأنها هي التي تحقق البعد والانقطاع عن الناس .
ولهذا كانت الدير والصوامع ينقطع فيها الرهبان عن الناس.
قال النووي : (الدير كنيسة منقطعة عن العمارة تنقطع فيها رهبان النصارى لتعبدهم …وهي نحو المنارة ينقطعون فيها عن الوصول اليهم والدخول عليهم) شرح النووي على مسلم (16/ 105)
وكان شكل الصومعة مرتفعا عن الارض لكي يصعد الرهبان اليه ويبعدوا عن الناس ولهذا كانت ترى من بعيد فسميت منارة كما قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشي كأنها … منارة ممسي راهب متبتل
يقول الطاهر بن عاشور : (والصوامع: جمع صومعة بوزن فوعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم،) التحرير والتنوير (17/ 201).
فبان بذلك أن الاعتكاف الذي كان في الشرائع القديمة الغرض منه هو اعتزال الناس وعدم مخالطتهم ، وكذلك الاعتكاف في الاسلام الغرض منه اعتزال الناس وعدم مخالطتهم ، وذلك ، لا يناسب القول بمشروعية الاعتكاف في البيت.
*******
إلى هنا ينتهي الرمي ..فما كان فيه من توفيق فهو من الله تعالى : {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، وما كان من خطا فهو مني ومن الشيطان والله تعالى بريء منه .
ثم إنه يحسن بنا التعريج على بعض شبه المخالف، من اجل إيضاح ما يتخللها من ضعف..
ومن أهم الشبه زعم البعض بأن قوله تعالى: { وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} يدل بمفهوم المخالفة على أن الاعتكاف قد يصح في غير المساجد !!!
وهذا قول فاسد …و شاذ..!!!
و قد نبه ابن رشد على شذوذه فقال –معلقا على هذه الآية-:
(ومن قال ليس له دليل خطاب قال: المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال: لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار، ولكن هو قول شاذ. والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنه من شرطه.) بداية المجتهد (1/ 313).
ويظهر فساد هذا القول الشاذ من عدة أوجه:
الوجه الأول :
من شروط العمل بمفهوم المخالفة أن لا يكون صفة لبيان الحال كأن يكون الكلام خرج مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وربائبكم الاتي في حجوركم}، ولهذا قال ابن عاصم في “مرتقى الوصول” :
والأخذ بالمفهوم في المذاهب … ممتنع إن يجر مجرى الغالب
كفي حجوركم كذا ما أشبها … … سبعين مرة مبالغا بها
وقد اعتبر الماوردي ان قيد “المساجد” في هذه الآية خرج مخرج الغالب ،فقال :
(قال الله تعالى :{ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} والصائم لا يجوز له وطء زوجته وإن كانت في غير مسجد ، وإنما ذكر المسجد على طريق الأغلب من أحواله.) الحاوي الكبير للماوردي ـ (9/ 540).
والصواب أن قيد “المساجد” لم يرد مورد الغالب بالمعنى الدقيق، لأن الغالب قد ينخرم ، وهذا الوصف لا ينخرم ،لأنه ورد بيانا للحالة اللازمة مثل القيد في قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، والقيد في قوله تعالى :{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وهذا النوع يسميه بعض الأصوليين : “وارد على حسب ما هو الشأن” والفرق بينه وبين الصفة الغالبة أنها قد تنخرم وهو لا ينخرم ، ويتفقان في أن كلاهما مفهومه غير معتبر.
ولهذا فإن بعض الأصوليين يعبر عن الجميع باسم “الصفة الغالبة” كما فعل الماوردي هنا.
وعليه : فلا يستساغ في هذه الحالة أن نعمل مفهوم المخالفة وندعي بأنه يدل على امكانية الاعتكاف في غير المساجد.
الوجه الثاني:
ان مفهوم المخالفة لا يجوز إعماله إذا عارضه نصٌ صريح، لأن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.
وهذا كما في قوله تعالى: ((فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) وقد ثبت في السنّة قصر الصلاة مع عدم الخوف، فكان ذلك مقدما على مفهوم الشرط المذكور في الآية.
فقد ورد أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: “صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته” تقدم تخريجه.
وفي مسألة اشتراط المسجد للاعتكاف ثبت في السنة ما يدل على ذلك ،فقد ورد في حديث عائشة رضي الله : {ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع } رواه أبو داود.
فكان ذلك ابطالا لمفهوم المخالفة في لفظة “في المساجد”.
الوجه الثالث:
ذكر “المساجد” في قوله تعالى : {وأنتم عاكفون في المساجد} أمر ضروري ، لأن الاعتكاف في اللغة يعني مطلق اللزوم في أي مكان ، أما الاعتكاف الشرعي فلا تتحقق ما هيته، ولا يتميز عن غيره من الاعتكاف “لغة” إلا بذكر قيد المسجد.
ولو أن الآية الكريمة اقتصرت على وصف “عاكفون” دون تقييده بالمسجد لكان المعنى مختلفا.. أو محتملا.. أو ملتبسا .
وهذا مبطل لمفهوم المخالفة ودليل على أن لفظة “المساجد” ليست قيدا لـ “عاكفون” ..بل هي مكمل لمدلولها ..فتأمل ذلك..!
الوجه الرابع:
يتضح من خلال السبر والتقسيم دلالة الآية على منع الاعتكاف بغير المسجد ، وذلك أن المباشرة المنهي عنها إما أن تكون متعلقة بوصف الاعتكاف فقط، وإما أن تكون متعلقة بظرف المسجد فقط ، وإما أن تكون متعلقة بوصف الاعتكاف حالة كونه في ظرف المسجد .
فإن قيل بأنها متعلقة بوصف الاعتكاف فقط دون المسجد، فمعنى ذلك إباحة المباشرة في المسجد لغير المعتكف، وهذا ممنوع قطعا !
قال صاحب تفسير اللباب :(وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف ؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.) تفسير اللباب (ص: 576)
وإن قيل بأنها متعلقة بظرف المسجد فقط فهذا يعني ان المعتكف اذا خرج من المسجد لحاجته جازت له المباشرة وهذا باطل ..!
وسبب نزول الآية يرده ..!
فقد روى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية أنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزل قوله تعالى :{ ولا تباشرهن وأنتم عاكفون في المساجد }.
فلم يبق إلا أن النهي عن المباشرة المذكور في الآية متعلق بالاعتكاف مع الظرفية في المسجد، والآية ربطت بينهما ربطا وثيقا، فلا يكون النهي عن المباشرة إلا في حالة الاعتكاف في المسجد وفي ذلك دلالة على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.
ولهذا قال الجصاص : (ثبت أن ذكر المسجد في هذا الموضع إذا لم يعلق به حظر الجماع إنما هو لأن ذلك شرط الاعتكاف ومن أوصافه التي لا يصح إلا به) أحكام القرآن ـ للجصاص ـ(1/ 309).
وقال ابن حجر : (الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون الا فيها) فتح الباري -(4/ 272).
وقال ابن قدامة : (فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا) المغني(3/ 127).
وقال النووي : (لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لانها منافية للاعتكاف فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد) المجموع شرح المهذب (6/ 483).
********
وأظن بأن ما تقدم يكفي لإيضاح المسألة وإزالة الشبهة..
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
كتبه محمد الامين ولد آقه
3 شوال 1441 هـ.