الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد في هذه الرسالة إيضاح بعض المسائل الشرعية التي يتبين من خلالها تحريم وبطلان وبدعية صلاة الجمعة في البيوت.
وقبل الشروع في الموضوع، أذكر بأن صلاة الجمعة في البيوت بثلاثة أفراد باطلة باتفاق المذاهب الأربعة..!
فما من مذهب من المذاهب الأربعة إلا ويفتي ببطلانها !
فالمذهب المالكي يفتي ببطلانها : لانعدام شرط الجامع ، وانعدام شرط العدد اثنى عشر رجلا ، ولوجود التعدد لأن الصلاة في البيوت تستلزم التعدد ،إذ من المفترض أن يصلي كل ثلاثة أو أربعة في بيت ..
والمذهب الحنفي يفتي ببطلانها : لوجود التعدد ، ولانعدام إذن الإمام ، ولانعدام الظهور والإعلان .
والمذهب الشافعي يفتي ببطلانها لوجود التعدد ،وانعدام العدد الذي تصح به، وهو أربعون رجلا تامين.. ولا بد أن يكونوا من الآدميين ، وإذا كان عدد الأربعين مكتملا بالملائكة أو الجن فلا بد أن يتشكلوا على هيئة الآدميين !!
هل عرفت الآن أن الشافعية لا يقبلون التنازل عن هذا الشرط ؟!!
والمذهب الحنبلي يتفق مع الشافعي في بطلانها لوجود التعدد ولانعدام العدد الذي تصح به وهو أربعون رجلا !
يا معشر المسلمين…
يا أهل القرن الحادي و العشرين ..
ما تصنعون بصلاة اتفقت المذاهب الأربعة على بطلانها ؟؟!!
أبهذه الصلاة تتقربون إلى الله تعالى ؟؟
وترجون الثواب من عنده ؟
والله لسلخ جيفة حمار، وأكلها غير مطبوخة أفضل من التقرب إلى الله بهذه الصلاة !!!
أما فيما يتعلق بحكم هذه الصلاة، فإن حرمتها وبطلانها وبدعيتها يتضح من عشرة أوجه :
الوجه الأول: الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
يقول ابن جرير : (ومعنى الكلام : {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}. يقول: فامضوا إلى ذكر الله ) تفسير ابن جرير الطبري (22/ 637).
و هناك تفسير لهذه الآية منقول عن الحسن أنه قال: “والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. تفسير القرطبي (18/ 101).
ويرد هذا التفسير أمران :
الأول: أن الآية فسرتها قراءة ابن مسعود (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله).
الثاني: أن حرف الجر “إلى” يجعل السعي المذكور في الآية مضمّنا معنى المضي والسعي بالأقدام.
فإذا كان “دعاة صلاة الجمعة في البيت” متفقين معنا على صحة تفسير ابن جرير، فينبغي أن يعلموا أن هذه الآية تدل بدلالة الإشارة على منع صلاة الجمعة في البيوت..
أقول : منع صلاة الجمعة في البيوت لا كراهتها !
وضابط دلالة الإشارة –وهي من دلالات اللزوم-: أن يساق النص لمعنى مقصود، فيلزم من ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك.
وقد أشار إلى ذلك العلامة سيدي عبدو الله في المراقي بقوله :
فأول إشارة اللفظ لما … لم يكن القصد له قد علما.
فالأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة يلزم منه بدلالة الإشارة منع الصلاة في البيت.
وإن كان “دعاة صلاة الجمعة في البيت” لا يقبلون تفسير ابن جرير فلدينا نصوص أخرى مصرحة بالسعي الى الجمعة بالأقدام ..
ومن هذه النصوص على سبيل المثال :
(من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة) ،رواه البخاري عن أبي هريرة
(إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه.
(لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)رواه البخاري عن سلمان الفارسي.
فكل هذه النصوص تربط بين أداء الجمعة والرواح إلى المسجد، وفي هذا دليل على منع صلاة الجمعة في البيوت ..
وإن كان “دعاة صلاة الجمعة في البيت ” لا يكتفون بالإشارة، ولا بد لهم من صريح العبارة، فإن لدينا نصوصا أخرى يمكن أن تنسجم معها العقلية الظاهرية وتدرك بأن صلاة الجمعة في البيت ممنوعة ..
ومنها هذا الحديث الذي سنذكره في الوجه الثاني :
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بتحريق الذين تخلفوا عن الجمعة.
ففي حديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : « لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم » . رواه أحمد و مسلم.
فلو كانت صلاة الجمعة في البيت مشروعة لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عن صلاتها في المسجد.
أي أن هذا الوعيد والتهديد دليل على تعين صلاة الجمعة في المسجد.
ولو افترضنا جدلا أن صلاة الجمعة في البيت كانت من الامور المعروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل ويسأل عن هؤلاء المتخلفين :هل صلوا الجمعة في البيت أم لم يصلوها؟
فدل ذلك على أن الحكم يشمل المتخلف التارك للصلاة ، والمتخلف المصلي في البيت ، لأن القاعدة الأصولية تقول : ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال .
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل لأنه يعلم أن مجرد التخلف عن صلاة الجمعة في المسجد يعني بالضرورة تركها ، و”صلاة الجمعة في البيت” ما هي إلا اسطورة فقهية يروج لها بعض أبناء زماننا المغرمين بالأساطير !!
إن وجه الدلالة من هذا الحديث لا يخفى على العين الظاهرية !
فيا من تروجون لصلاة الجمعة في البيت : إن كنتم من اهل النظر في الدلالات فالآية التي ذكرنا سابقا تكفيكم ..
وإن كان هروبكم من داء كورونا أوقعكم في العدوى بأهل الظاهر وأصبح من الضروري أن “يخط لكم بالمدقة” فهذا الحديث يكفيكم !
(وهذا الحديث هو الذي اقتبست منه عنوان الرسالة “صب الزيت” لكنني حذفت النار مراعاة لمشاعر المخالفين وكنيت عنها بالزيت الذي هو سبب لاشتعالها).
الوجه الثالث:
ان القول بمشروعية صلاة الجمعة في البيت يفضي الى تغيير هيئة صلاة الجمعة الظاهرة…
وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ومن صلى الجمعة في بيته فقد خالف هيئة الصلاة التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مخالفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قول الشوكاني :(فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان ، قام أحدهما يخطب ،واستمع له الآخر، ثم قاما فصليا صلاة الجمعة.)!! السيل الجرار (ص: 182).
ثم جاء محمد صديق خان ونقل عنه هذا الكلام “بذبابته” في (الروضة الندية)!
وأضاف إليه فلفل وبهارات !!
أي مخالفة لكيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فوق هذه الهيئة التي ذكر الشوكاني ؟!!
ولو أن أحدا فعل هذا الأمر في المدينة زمن الخلفاء الراشدين لاجتمع عليه الغلمان والجواري يضربونه بالحجارة لأنهم لا يرونه إلا ممسوسا في عقله أو مبتدعا في دينه !!
لم يقدم الشوكاني برهانا على أن هذه الصلاة التي تصورها في ذهنه وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو سبقه إليها أحد من الصحابة والتابعين ..
وإنما اكتفى فقط بإلغاء الشروط التي اشترطها الفقهاء للجمعة وضربها بعصا سحرية بقوله : لا أصل لها !!
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم !!!
ولنجر مقارنة بسيطة بين الشوكاني وبعض الفقهاء الذين فند مذاهبهم في الجمعة ..
فهذا الإمام مالك الذي لم يكن ينظر في الأوراق والصحف، بل كان يلتفت حوله ويقول “ليس عليه العمل عندنا”!!
كان يعيش في بيئة الدليل ويستنشق هواء الدليل !
وكان الشوكاني رهينا لما تجود به أوراق تداولها النساخ لأكثر من ثمان مائة عام ، فكم يا ترى حدث فيها من السقط ، والحذف ، والنقص، والزيادة ؟ ؟ !!
ما أبعد الهوة بين من يغرف العلم بيده، ومن يدلي بدلو يمتد حبله لمئات السنين !!!
وفوق هذا كله كان الإمام مالك روعة في التواضع وقمة في الورع، حبذا لو سار سيرته علماء زماننا ..
لم يكن مالك يتبختر في ثوب مجتهد العصر، ولم يكن يطالب وزارات الأوقاف في العالم الإسلامي بتقليده واتباع فتواه !!
بل رفض أن يفرض كتابه الموطأ على الناس !
ويأتيه القادم من البلاد البعيدة يحمل أربعين سؤالا، فيجيب على اثنين منها ويقول في البقية لا أدري !!
لا أفهم كيف يرضى عاقل باتباع آراء فقيه يبهرج في زمانه ويأنس بمخالفة الإمام مالك !!
وتكبر في عين الصغير صغارها …وتصغر في عين العظيم العظائم !!
إن إماما كمالك رضي الله عنه حين يشترط شرطا في الجمعة ينبغي أن نفكر كثيرا قبل أن نرد عليه شرطه.
شاءت حكمة الله تعالى ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح بشروط لصلاة الجمعة وإنما اكتفى ببيان كيفيتها بطريقة عملية ..
ولكي نظل محافظين على هيئة صلاة الجمعة وكيفيتها التي أداها بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد للجمعة من شروط ..و لكن هذه الشروط لم يصرح بها..
لهذا كان لزاما على الفقهاء ان يجتهدوا في تحديدها بناء على ما وصل إليهم من الأدلة والأخبار ..
وكان اختلافهم في هذا الأمر نتيجة طبيعية لانعدام النصوص التي تحسم الأمر في القضية .
ولو أن الفقها امتنعوا من الاجتهاد في هذه القضية ، وقالوا: لن نعتبر شرطا للجمعة إلا ما صرحت السنة بشرطيته ..
فسوف يصلون إلى حتمية انعدام شروط الجمعة ، وربما وصلوا إلى الصورة المضحكة التي تحدث عنها الشوكاني !!!
الوجه الرابع: أن الصلاة في البيت تستلزم تعدد الجمعة..
لأنها ستقام في كل بيت وهذا لم يقل بمشروعيته أحد من أهل العلم !
ومن الأدلة الواضحة على منع تعدد الجمعة : حديث الزهري عن السائب بن يزيد قال : (ما كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلا مؤذن واحد إذا خرج أذن و إذا نزل أقام و أبو بكر و عمر كذلك فلما كان عثمان و كثر الناس أمر بالنداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء فإذا خرج أذن و إذا نزل أقام)رواه البخاري وأصحاب السنن وابن خزيمة واللفظ له .
وروى أبن خزيمة عن ابن عباس أن المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم “كان ضيقا مقارب السقف” !!
ففي هذا الأثر تصريح بأن المدينة اتسعت في عهد عثمان رضي الله عنه اتساعا كبيرا حتى احتاجوا لزيادة أذان ثان من أجل إعلام الناس ، والمسجد ضيق ، ومع ذلك لم يفكروا بإقامة جمعة ثانية مع حاجتهم ، لما تقرر عندهم أن الجمعة مرتبطة بالإمام ، وان المقصود منها الاجتماع والكثرة كما هو الحال في صلاة العيد .
ولهذا كان الناس في العوالي وذي الحليفة وسائر الأماكن القريبة من المدينة يصلون الصلوات الخمس في مساجدهم ولا يصلون الجمعة إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ،وكان ذلك في زمن النبي صلى الله علي وسلم واستمر بعد وفاته في زمن الخلفاء الراشدين..
ومن الأدلة على ذلك :
عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالى فيأتون فى العباء ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندى فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا »رواه مسلم.
وقال أبو عبيد: شهدت مع عثمان بن عفان فكان ذلك يوم الجمعة فصلى قبل الخطبة ثم خطب فقال يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر ، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له. رواه البخاري .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الزهري ؛ أن الناس كانوا يشهدون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة.
وعن بكير بن الأشج قال : حدثني أشياخنا : ” أنهم كانوا يصلون في تسع مساجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يسمعون أذان بلال ، فإذا كان يوم الجمعة حضروا كلهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم “رواه البيهقي.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الأوزاعي ، عن واصل ، عن مجاهد ، قال: كانت العصبة من الرجال والنساء يجمعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فما يأتون رحالهم إلا من الغد!!
وروى ابن أبي شيبة أيضا عن هشيم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ؛ أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشيا ، فقلت لعبد الحميد : كم كان بين منزله وبين الجمعة ؟ قال : ميلين.
وهذه الأخبار كانت متواترة عند السلف لا يجهلها صغير ولا ينكرها كبير ولا يثير عليها الغبار مثير ..
وبذلك يظهر بطلان ما ادعاه الشوكاني حين قال : (فقد ورد أن الجمعة كانت تقام في غير مسجده صلى الله عليه وسلم.)!!! السيل الجرار(ص: 180).
فإذا كان يجوز لكل ثلاثة أشخاص أن يصلوا في بيتهم الجمعة فيقوم أحدهم خطيبا ويستمع اثنان ..
فلماذا لم يفعل ذلك أهل العوالي مع شدة حاجتهم إليه ؟!
ولماذا لم يفعل ذلك أهل ذي الحليفة مع بعدهم ؟!
ولماذا لم يفعل ذلك أهل المساجد التسعة في المدينة ؟
يا معشر الجن والإنس أجيبونا …!!
يا أهل العقول ..أدركونا ..!!
يا أطباء كورونا .. أسعفونا !!
هذا السؤال لم يجب عليه الشوكاني !
إن موقف الشوكاني يذكرني بالقانون الفيزيائي : “لكل فعل ردة فعل مساوية لها في القوة ومعاكسة في الاتجاه”.
لقد كان الشوكاني يواجه طينة من المتعصبين للمذاهب كأنما خلقوا لهذا الغرض !
{وربك يخلق ما يشاء ويختار}..
فكان الخصام معهم يذهب به بعيدا إلى حد إنكار الأمور المتفق عليها عند الصحابة والتابعين..!
لقد كان هذا الأمر في عهد السلف واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، ولهذا اتفقت المذاهب الأربعة على منع تعدد الجمعة، ولكن أتباعها تساهلوا فيه من الناحية التطبيقية !!!
قال النفراوي المالكي:(والدليل على وجوب اتحاد الجامع فعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده فإنهم لم يقيموا سوى جمعة واحدة، و لأن الاقتصار على واحدة أفضى إلى المقصود من إظهار شعار الاجتماع واتفاق الكلمة.) الفواكه الدواني (2/ 626)
وقد صرح السرخسي في حديثه عن منع تعدد الجمعة بأن صلاة أهل كل مسجد في مسجدهم كل على حدة، لم يقل بها أحد ! المبسوط للسرخسي ـ (3/ 104).
انتبه.. وركز ..”لم يقل بها أحد” !!!
فهل يمكن بعد هذا ان يدعي أحد بأنه يجوز لأهل كل بيت أن يصلوا الجمعة في بيتهم ؟!!!
إن النقاش والجدال في الأمور التي كانت مسلمة عند الصحابة والتابعين ليس من أمارات النبوغ المعرفي.. بل هو جهل يتبختر أصحابه في ثياب المعرفة !!!
حماقة الغراب لا حد لها ..لكنها لا تمضي به إلى درجة أن يظن نفسه طاووسا !!
الوجه الخامس : أن الصلاة في البيوت باثنين أو ثلاثة تفتقر إلى العدد الذي تصح به الجمعة ..
وما ذهب إليه الحنابلة والشافعية من اشتراط الاربعين ليس هرطقة ولا خزعبلات ، ولا احلاما رأوها في المنامات ، بل هو اعتماد على نصوص ثابتة تناقلها الرواة عن الصحابة والتابعين وذكروا هذا العدد بالتحديد ، ولو لم يكن لذكره أثر على الحكم لما تناقلوه ، فإن رواة الحديث لا ينقلون هذه الأخبار من أجل السرد التاريخي أو محاكاة “الف ليلة وليلة ” ، وإنما ينقلونها من أجل لاعتماد عليها في تدوين الأحكام ، وكل وصف يتناقلونه أو عدد يضبطونه فإن له في الغالب تأثيرا في الحكم ، وإلا فما الداعي إلى ضبطه وحفظه وتدوينه ؟
وقد روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن أباه قال له : ” أول من جمع بنا أسعد بن زرارة فى هزم النبيت , فى نقيع يقال له: نقيع الخضمات ” , قلت كم أنتم يومئذ ؟ قال: أربعون رجلا “. رواه أبو داود والدارقطنى والحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني فقال :
(قلت: وهذا إسناد حسن كما قال الحافظ فى ” التلخيص ” فإن رجاله ثقات , وإنما يخشى من عنعنة ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث فى رواية الدارقطنى والحاكم وقال: ” صحيح على شرط مسلم “. و وافقه الذهبى !!
وقال البيهقى: ” ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه فى الرواية , وكان الراوى ثقة استقام الإسناد , وهذا حديث حسن الإسناد صحيح “.)إرواء الغليل (3/ 66)
السؤال المطروح : لماذا يسأل عبد الرحمن والده عن العدد؟
ولماذا يضبط كعب بن مالك هذا العدد في ذهنه ان كانت المعلومة لا يترتب عليها شيء ؟
بل لماذا أصلا قام بعدّ تلك المجموعة التي صلت تلك الصلاة ؟
ما الضير في أن يكونوا أربعين أو أقل أو أكثر ؟
الاهتمام بهذا العدد والسؤال عنه ، لم يكن ترفا فكريا ، ولا قتلا للوقت!
ولا تجاذبا للحديث مع البيظان حول الشاي..
الصحابة “ما فارغ شغلهم” ..!
والإمام أحمد استشهد بهذا الحديث فى مسائل ابنه عبد الله وبين وجه الدلالة منه فقال : ” قد جمع بهم أسعد بن زرارة , وكانت أول جمعة جمعت فى الإسلام , وكانوا أربعين رجلا “..
فكون هذه الجمعة هي أول جمعة يصلونها قرينة واضحة على ان هذا العدد معتبر وان المانع لهم فيما سبق من إقامتها هو عدم بلوغ هذا النصاب .
وهناك قرينة أخرى وهي أن عدد الأربعين مناسب لهذا الحكم لأنه نصاب للقوة والشدة ، ولهذا فإن المسلمين في دار الأرقم لما بلغوا أربعين نفسا ، خرجوا واعلنوا إسلامهم .
وهذا المذهب القائل بالتحديد بالأربعين أقرب إلى السنة ممن حدد بالثلاثة والأربعة إذ لا نص لديه في ذلك.
ولهذا قال ابن قدامة : (فأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه ، فإن التقديرات بابها التوقيف ، فلا مدخل للرأي فيها) المغني (4/ 167)
الوجه السادس: أن الصلاة الجمعة في البيت تتنافى مع المقصد الذي شرعت من أجله صلاة الجمعة.
فصلاة الجمعة هي عيد المسلمين وشعارهم الأسبوعي والمقصود منها اجتماع المسلمين بأكبر عدد ممكن وتظاهرهم فيها كما يتظاهرون في صلاة العيد من أجل إظهار الاجتماع واتحاد الكلمة، ولأن الكثرة من شعار العيد ومظاهره.
وهذا كله يقتضي إظهارها وأداءها مع جموع المسلمين، وأداءها في مكان عام..
وهو ملا يمكن تحققه حين تؤدى في البيوت، لأن ذلك يحولها من صلاة عامة الى صلاة خاصة، فالمكان يخصص ويعمم.
وفي هذه الحالة يقال فيها ما قاله الشربيني الشافعي عن صلاة الجماعة: (فتجب بحيث يظهر شعار الجماعة بإقامتها بمحل في القرية الصغيرة وفي الكبيرة والبلد بمحال يظهر بها الشعار ..، فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت ولم يظهر بها شعار لم يسقط الفرض،) الاقناع في حل ألفاظ أبى شجاع ـ (1/ 150).
وانتبه الى أن الشربيني قال هذا الكلام في حق صلاة الجماعة ،لا في حق صلاة الجمعة !!
فما عساه يقول لو رأى الناس يصلون الجمعة في البيوت ؟؟!
ولهذا اعتبر الحنفية ان من شروط الجمعة أن تؤدى على سبيل الشهرة والاعلان ..
وفي ذلك يقول ابن نجيم: (شرط صحتها الأداء على سبيل الاشتهار حتى لو أن أميرا أغلق أبواب الحصن وصلى فيه بأهله وعسكره صلاة الجمعة لا تجوز كذا في الخلاصة ،…. لأنها من شعائر الإسلام وخصائص الدين فيجب إقامتها على سبيل الاشتهار،) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (5/ 174)
الوجه السابع: أن السلف من الصحابة والتابعين لا يؤثر عن أحد منهم صلاة الجمعة في البيت.
فالواضح من تتبع سيرة السلف أنهم لم يكونوا يرون مشروعية صلاة الجمعة في البيت ومن الأدلة على ذلك أنهم لم يفعلوا ذلك في زمن الحكام الظلمة الذين لا يرون مشروعية الصلاة خلفهم ، بل كانوا يصلون الظهر في بيوتهم ثم يأتون الجامع فيصلون الجمعة مع هؤلاء الظلمة .
قال ابن نجيم 🙁 في الظهيرية والخانية عن إبراهيم النخعي وإبراهيم بن مهاجر أنهما كانا يتكلمان وقت الخطبة فقيل لإبراهيم النخعي في ذلك فقال : “إني صليت الظهر في داري ثم رحت إلى الجمعة تقية” ؛..
ولذلك تأويلان : أحدهما أن الناس كانوا في ذلك الزمان فريقين فريق منهم لا يصلي الجمعة ؛ لأنه كان لا يرى الجائر سلطانا وسلطانهم يومئذ كان جائرا فإنهم كانوا لا يصلون الجمعة من أجل ذلك وكان فريق منهم يترك الجمعة ؛ لأن السلطان كان يؤخر الجمعة عن وقتها في ذلك الزمان فكانوا يأتون الظهر في دارهم ثم يصلون مع الإمام ويجعلونها سبحة أي نافلة ا هـ .) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ـ (5/ 165)
فلو كانوا يرون مشروعية صلاة الجمعة في البيت لصلوها وتركوا صلاة الظهر..!
وقال ابن قدامة : (فإن عبد الله بن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدونها (الجمعة) مع الحجاج ونظرائه ، ولم يسمع من أحد منهم التخلف عنها ….لأن الجمعة من أعلام الدين الظاهرة ، ويتولاها الأئمة ومن ولوه) المغني(4/ 114).
ولو كانت صلاة الجمعة في البيت معروفة عندهم وجائزة لفعلوها واستغنوا بذلك عن الصلاة خلف الحجاج وأمثاله.
الوجه الثامن: العاجز عن الوصول إلى المسجد لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة في بيته، ولا أفتى أحد من أهل العلم بذلك:
وقد قال أبو داود في سننه : “باب الجمعة في اليوم المطير” ، وأورد حديث أَبِي قلابة ، عَن أَبِي المليح ، عَن أَبِيه ، أَنَّهُ شهد مَعَ رَسُول الله ( زمان الحديبية فِي يوم جمعة ، وأصابهم مطر لَمْ يبل أسفل نعالهم ، فأمرهم أن يصلوا فِي رحالهم). .
وبالطبع فإنهم صلوا في رحالهم الظهر لا الجمعة.
ولو كانت الجمعة في البيوت جائزة لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلوها في رحالهم، ولنقل ذلك إلينا.
وقد أشار الكشميري إلى ذلك فقال: (شاكلةَ الجمعة تُغَاير شاكلة سائر الصلوات عندهم، ولذا من تخلَّف منهم عن الجمعة لم يصلِّها في بيته. ولو كان حال الجمعة كحال سائر الصلوات، لأقاموا الجمعات في رِحَالهم أيضًا، فافهم.) فيض الباري شرح البخاري (2/ 378).
وأما بالنسبة لفتاوى العلماء فقد نصوا على بعض الصور التي يعجز أصحابها عن الوصول إلى المسجد بسبب مانع ما ، ومع ذلك نصوا على أنه تسقط عنهم الجمعة وتجب عليهم الظهر ، ولم يفتهم أحد بجواز صلاة الجمعة في مكانهم !!
حتى بالنسبة للحنفية الذين لا يشترطون الجامع ولا أكثر من ثلاث !
فالأعمى الذي لا يمكنه الذهاب إلى الجمعة بنفسه قال في حقه الإمام ابو حنيفة : “تسقط عنه الجمعة ولو وجد قائدا متبرعا أو بأجر يقدر عليه” الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 595)
لماذا لم يقل أبو أحنيفة -وهو الذي لا يشترط الجامع ولا اكثر من ثلاث –يجب على الأعمي ان يصلي الجمعة في بيته إذا وجد رجلين يصليان معه ؟
بل إن الحنفية نصوا على أن الجمعة تسقط عن كل من لم يستطع الوصول للجامع، وفي ذلك يقول شيخي زاده :
(وكذا لا يخاطب بها المحبوس والخائف من السلطان أو اللصوص وكذا من حال بينه وبينها مطر شديد أو الثلج أو الوحل أو نحوها) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ـ (2/ 45)
فلو كانت الجمعة مشروعة في البيوت لأفتى علماء الحنفية العاجزين عن الوصول إلى الجامع بالصلاة في بيوتهم .
الوجه التاسع: إجماع العلماء على أن الظهر بدل عن الجمعة عند تعذر إقامتها أو عند انعدام شرط من شروطها .
قال ابن المنذر : (أجمعوا على أن من فاتته الجمعة من المقيمين أن يصلوا أربعا) الإجماع لابن المنذر (ص: 40)
وقال ابن قدامة : (فان خرج وقتها قبل فعلها صلوا ظهرا لفوات الشرط لا نعلم في ذلك خلافا) الشرح الكبير لابن قدامة (2/ 167).
وإذا كانت الظهر بدلا عن الجمعة فلا معنى للقول بمشروعية صلاة الجمعة في البيت عند تعذر أدائها في المسجد ، لأن البدلية تعني أن يتحول الوجوب إلى الظهر في حالة العجز عن الجمعة أو فقد شرط من شروطها .
الوجه العاشر: القياس على صلاة الجماعة.
إن صلاة الجماعة لا يوجد كنهها ولا تتأتى حقيقتها إلا بأدائها في المسجد الذي يؤذن فيه ويصلى فيه ، ولا يكفي أن تؤدى جماعة في مصليات البيوت ..
يشهد لذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود : (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم فى بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف فى بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)
وأخرج أبو نعيم في ” حلية الأولياء ” عن معاذ بن جبل: ( لا تقل إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ).
وإذا كان هذا هو شأن صلاة الجماعة فصلاة الجمعة أولى منها بذلك، وأدعى لأن تنزه عن أدائها في البيوت، لأنها أعلى منها في مرتبة الوجوب ، وأمكن منها في مقصد الاجتماع والظهور .
*******
هذا.. ويمكن أن نذكر بعض الوجوه الأخرى التي تدل على منع صلاة الجمعة في البيوت ، لاكن لا أريد الإطالة ، وفيما ذكرته كفاية لطالب الحق.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف: 17].
والله أعلم والحمد لله رب العالمين .
محمد الأمين ولد آقه.
16-4-2020