كتابنا

الطريق إلى داكار .. والطريق إلى عبادة الجزيرة

يتبين المرة تلو المرة كل ماجدَّ ما من شأنه أن يشكل اعتداءً على هذه الدولة أن هنالك قطعانا من البشر تعلف من أرضنا لتغذي حُبَّ “قطر” و”تركيا” ….ومرجعيات معروفة. كتبت شمطاءُ (خديجة بن قنة ) أفنت عمرها في مزاحمة الرجال داخل مصانع الفتن الموقوتة والصراعات الأهلية : “حتى موريتانيا”، معلقة في أسلوب تهكمي احتقاري ساخر من مقاطعة موريتانيا خادمةَ نزلاء وأسياد “السيلية” و”العديد”. لكن ظلم ذووي القربى أشد مضاضة، حيث طلع علينا من بني جلدتنا أقوام على جباههم وصمات احتقار الذات والشعور الحاد بالدونية ..فأخذوا يحضوننا على جلد الذات …وعلى اعتبار أسواط الآخرين أكاليل من الورد …وعناقيدَ حب وودّ! وهموا بتبريرات لم ينلها منطقهم العاجز الذي تفوح منه رائحة الولاء العابر الحدودَ …الذي يصدُر عن الجيوب والبطون قبل الضمائر والإيديولوجيات والقناعات. ونحن نذكرهم أن من لم يملكه إحسان أمه، فثناؤه على ” جمائل ” الآخرين دليل على لؤمه، وأن من باع كرامته لن يشتري بثمنها ضميره! ثم أقام البلاد وأقعدها وثائقي “الطريق إلى داكار” الذي أصدرته الجزيرة وأنجزته، فانقسم الناس ما بين غيور على وطنه رأى فيه إساءة مع سبق الإصرار والترصد، ومابين تبريري قطري الهوى والفؤاد شرع يواظب على هوايته في استنقاص نفسه واحتقارها، وذر الملح في جراح بلده، والتمالئ مع كل من يرمي إلى النيل منه، ولفِّ اليدِ حول قبضةِ كل من يهم بطعنه، وبينَ آخر ذهبت به غيرته إلى أن لا يكتفي بالدفاع فقط مؤكدا أن الدولةَ لا ينبغي لها أصلا أن تترك للآخرين منفذا تصلها من خلاله أصابع غمزهم وهمزهم. والذي يمعن النظر في الوثائقي المذكور يجد أنه تعمد تشويه صورة موريتانيا، ولم يكن ماورد فيه وليد الصدفة أو سالما من الضغينة. فعند الوصول إلى معبر ” الكركارات” الحدودي، تحدث الصحفي عنه معتبرا إياه ” بوابة إفريقيا” وهذه العبارة – عند تحليلها – تحيل إلى مجموعة من الدلالات : أولاها أن يكون قد انطلق ضمنيا من الفكرة التي تم التكريس لها فكريا وثقافيا وتعليميا وشعبيا في المغرب، والتي تدور حول كون موريتانيا إقليما مغربيا فصلته فرنسا. ولا يخفى ما في تلك الفكرة من تزييف للتاريخ. وثانيتها : أنه يصنف موريتانيا دولةً غير عربية. فمن الضروري أن يكون في علم المقرر أن الاصطلاح المدؤوب عليه – حين يكون الكلام صادرا عن عربي – تمييز الدول العربية عن الدول الإفريقية حتى وإن كان من المعلوم وقوعها في قارة إفريقية المجيدة. نحن عرب تشرفنا إفريقيتنا، لكن يجب وضع النقاط على الحروف. ولنسلم جدلا أن الصحفي قد وصفنا انطلاقا من موقعنا الجغرافي، إلا أنه كان من المفترض أن لا يغيب عن باله أن المغرب، هو الآخر، إفريقي الجغرافية، وهو البوابة فعلا لهذه القارة من جهة الشمال! كان عليه إذن، لو أنه ابتغى الموضوعية أن لا يخرج المغرب من موقعه القاري، أو أن يتبنى المتعارف عليه معتبرا إياه وموريتانيا دولتين عربيتين والبوابةَ الفعلية لإفريقية القحة هي “روصو سينغال”. بيد أن الواقع كون الوثائقي ذا مآرب لا تنبع من نية طيبة، فقد صدر عن التصنيف ” العرقي” الثقافي فأدخل المغرب في العروبة وأخرجنا منها، وهذا باعث على السخرية منه! أما ثالثتها : فتتعلق بما ورد فيه من امتعاض السائقين من إجراءات الدخول إلى موريتانيا والخروج منها، فأظهرهم وهم مقطبو الوجوه عابسون، يتحدثون لغة يملأها الحنق والامتعاض إن لم نقل الحقد، كأنهم شباب غزِّيون يحاولون عبور حاجز أمني صهيوني. وهذا فيه إشارات إلى أننا قوم نسيء معاملة الجار ولا نتمتع بذرة من التسامح أو الرفق، كما أن فيه تحريضا على كرهنا من طرف المغاربة، وهذا واضح من خلال ضرب الذكر عن كل مظاهر التساهل التي يلاقيها الداخلون من مواطني المملكة إلى الجمهورية الإسلامية. في الطريق إلى نواكشوط كانت الكاميرات تركز على مافي الطريق من مطبات وحفر وما على جوانبه من عشوائيات، وذلك ما فعلت أيضا إبان التوجه إلى روصو. وفي العاصمة سلط الضوء بشكل متعمد على منطقة ليست أفضل المناطق المتاحة مظهرا. وفي هذا ما فيه مما قد يبت فيه المختصون في المجال بشكل أكثر عمقا. عبارة ” السكر وأتاي ” أُوردت عمدا لتغمز في نزاهة أمن هذا الوطن، ونحن لا ننكر أن الرشوة متفشية، لكن لا ينجو منها لا بلد السائقين ولا الفندق الذي على شكل إمارة والمحجوز من طرف المارينز. أما جملة بلد ” المليون شاعر “، وردود الفعل المتهكمة عليها “المقللة” من قيمتها، المتفِّهة إياها، فهي – على ما فيها من جرءة على مشاعر الموريتانيين – مدحٌ لهم، ودليل على قصور نظر من تهكم عليها وسخر منها، فالذي يحترق بالضوء محكوم عليه بالعتمة، ورب ضاحك وهو للناس مضحكة. في السينغال تتغير الأوضاع فالحالة المزرية و”سوء المعاملة” الذي يتعرض له السائقون من طرف الموريتانيين يختلف تماما عن الطريقة الوديعة التي يُتلقون بها في السينغال، والطقس المعنوي والنفسوي هنالك يختلف، حيث الأمن والراحة والطمأنينة! إبان العودة يظهر السائق ” المجيد ” وهو يحمل قنينة من عصير ” دانون” مخبرا مهاتفه أنه إنما اضطر إلى أن “يقطع صومه” في هذا المكان الذي يبدو أنه لا يروقه إلى حد القرف، وأنه سيفطر فعليا حين يصل إلى المكان المناسب، كأنه نبي اعترضت مساره قرية مغضوب عليها فسارع مبتعدا مخافة أن يناله شيء من العذاب، أو كأنه ملياري ” قاروني” مر بكوخ متصدع متهالك فترفع عن ضيافة ساكنيه. ولله في خلقه شؤون! وعند دخول المغرب عاد السائقان إلى أرض الأمان، فعلى ما يبدو قد خرجا من بؤرة إرهابية خطيرة! مما يجب أن يوضع في الحسبان أن في ما ذكره الوثائقي- زيفا وزورا – من انفلات للأمن في موريتانيا دعاية مضادة، وضربة على العمود الفقري لاقتصاد البلد، فالأمن رأس مال السياحة، والعملة التي بها يشترى انجذاب المستثمرين. وإذا تُرجم هذا الوثائقي فإنه سيكون كارثة بكل معاني الكلمة لأنه سيرسم صورة قاتمة عن موريتانيا لن تكون بعدها وجهة لأحد. تلك نقاط مختصرة تبين بعض ما تضمنه الوثائقي المتحامل، الخادم أجندات سياسية واضحة المعالم.

ما يلفت الانتباه هو أن ” الطريق إلى داكار” كان أسلوبه أخف حدة، من أسلوب “الطريق إلى عبادة الجزيرة” الذي ينجز آلاف النسخ منه يوميا أبناء الولاء القطري، المجردون من كل شعور بالكرامة والأنفة، المصابون بالنقص المزمن والاستلاب أمام كل من لا يتحدث ” الحسانية ” بطلاقة تامة، والذي يحاول بكل قدراته وأساليبه غير الشريفة أن يمرِّغ جبهة الوطن في الوحل، وأن يجرده من كل خصاله الحميدة!

إن كان ينقص موريتانيا تطور على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية، فيكفيها أنها لا تعيَّر بالمتاجرة بالشرف، ولا بالعمالة أو الرذيلة. وأن لسانها ينادي الضيف منشدا : ” وإني لعبد الضيف مادام نازلا ….وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا ” وأن الفطيمَ فيها ” قس بن ساعدة وعمرو بن كلثوم وول الطلبة اليعقوبي”، والطفلَ “ابن حجر والمتنبي “، والمراهقَ “نزار”، والشابَ ” درويش وآدونيس وأحمدو ولد عبد القادر “، والراشدَ ” مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد ” حتى يسلم الروح إلى باريها. يكفيها كون نسائها حافظات للعرض، يتبعن سنة ابنة عمران والزهراء وخولة بنت الأزور، ويتمتعن بالحشمة في زمن النساء فيه وجوههن من حجارة ومهنتهن المتاجرة بالشرف. يكفيها كونها الحافظةَ تاريخَ العرب: أيامَهم في الجاهلية، وفتوحاتهم في الإسلام، وأنساب أعلامهم. وكونُها حصن اللغة العربية الأرسخ والأمنع، يشهد لها بذلك الانحطاطُ الذي ضرب العالم العربي شرقا وغربا، ويبصم عليه بالعشرة، والحاضرُ والتاريخ اللذان يؤكدان أنها بلد المليون شاعر أو أكثر بالفعل، وأرض خيرة علماء الوطن الإسلامي والعربي. وفي الأخير لا ينبغي أن يكون ردنا كلاما فقط، فلقد نطقنا لنبين الحقيقة، وندافع عن أرض حفنةٌ من رملها أغلى من ذهب الدنيا وما فيها. لكن على الدولة أن تدرك أننا نشعر بالقهر كلما أسيء إلى هذا الوطن، وبالتالي أن تتحمل مسؤوليتها وتباشر الإصلاح، وأن يكون أول ماتبدأ به تكوين ديبلوماسية متمرِّسة سياسيا، ومؤهلة فكريا، ومبرَّزة وطنيا، لتغير الصورة السوداء المنتشرة عن موريتانيا، وتبرز تاريخها، وقيمتها الاقتصادية والثقافية والسياسية.

مولاي عمر مولاي الحسن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى