كتابنا

نواذيبو ، نهار الكد و ليل الأرصفة../صلاح الدين الجيلي

لم أزر مدينة في موريتانيا بجمال مناخ هذه المدينة ، و لن أقارن كرم أهلها بكرم مدن أخرى ، حتى لا يكون ذلك نقصا من جود آخرين ، لكن لكرمهم لمسة خاصة ، هو بكل بساطة شيئ اعتادوه فصار جزءا من حياتهم اليومية .

المدينة نهارا ليست ذات المدينة ليلا ، المدينة نهارا ، لوحة جميلة ، ليوم يعج بالحركة و النشاط ، بحارة يقطعون الشارع في ضحك متبادل ، عمال منهمكون في ترميم سور قديم ، يعيدون للماضي ألقه ، صغيرة مع أمها على الرصيف في انتظار تاكسي يضج بجدال ركابه ، في سوق السمك ، كل الألوان هناك ، و كل الأصناف ، هناك تخبرك دهشتك بأنه سوق آسيوي ، لكثرة مرتاديه من ذوي العيون الضيقة ، ثم لا تلبث أن تزول الدهشة ، فالبحر بحرهم ، تنطلق المآذن ، فيدب نشاط من نوع آخر ، هرولة نحو المساجد ، فهذا يغلق دكانه و آخر يتوضأ أمامه ، لكن كل تلك المشاهد الجميلة ، يكذبها ليل ماجن ، و كأن الموج ، ينتظر المساء ليزحف ماحيا كل ما رسمته ظلال النهار .
يرتفع آذان المغرب ، تمتلأ المساجد ، من أغنياء قدموا بسيارات رباعية الدفع و فقراء قدموا في سيارات قديمة متهالكة ، لم تطفأ محركاتها إلا لغداء أو صلاة ، هي معيلة الأسرة ، ثم جيران المساجد الذين يأتون مشيا من بيوتهم ، يسلم الإمام ، دقائق و يتفرق المؤمنون ، يعود من يعود لبيته أو لشأن من شؤونه ، ثم ينطلق صنف آخر من المؤمنين ، لهم في الليل عبادة خاصة و أغراض خاصة و طقوس خاصة .
في الشوارع المضيئة ، سترى بأم عينك جميلات فاتنات ، يتبخترن على الأرصفة ، يوزعن الإبتسامات مجانا ، و لا شيئ مجانا غير ذلك ، بل إذا أمعنت التفكير فهي بسمة ليست مجانية أبدا في حال توقفت لإحداهن ، و اعتلت معك مركب الريح ، لن تضغط عليك ، و لن تبتزك ، هي و من واقع خبرتها ، تنازلت عن تلك الأعمال لجمال خارق لا يقاوم ، في نواذيبو ، سيكون إيمانك دائما تحت الإختبار ، فكن أو لا تكون .
أتجول بالسيارة ليلا و تلك هواية قديمة لي ، حين تفرغ الشوارع من المارة ، ترجع للمدينة بكارتها ، تكون صقيلة الروح ، هوائها البارد منعش جدا ، هذه المدينة كأن ..

قلبين فيها يصرخان معا….قلب طهور و قلب آخر حجر

لا أعرف لماذا دائما تمتلأ مدن البحارة بالتناقضات ، و كأن المدينة تتقمص روح البحر ، الهادئ تارة المهادن ، الغاضب المتمرد أخرى ، مدينة باسمة شغوفة متعطشة لنسمات حرة ، غاضبة متقدة جمرا بتساؤلات عنوانها الأول ، أنها كانت لتكون أفضل و هي عروس الشمال المليئ الثري ، مدينة تجمع بين نجل العيون و حسنها و عبوس الحاجة و ضغطها ، بين زرقة البحر و خيراته و رمادية الجيوب و خوائها ، بين لحظِ الحسنِ ، ولحظِ سياط الرغبات الغير مشروعة ، بين كرم أهلها و بشاشتهم و بين الواقع المزري الذي و برغم وقعه ، لن تلاحظه في بيوت تحب الغريب و تكرمه ، سيارات الدفع الرباعي المظلم النوافذ ، و كأن أشباحا تقودها ، تقابلها سيارات البسطاء المبتسمين أملا في يوم جديد ، كلاهما يعيدان رسم اللوحة ، لوحة المتناقضات ، كيف استأثر أولائك بالثروة فغدوا أشباحا ، لا تدركهم عين ، بينما نال الفقر من أولائك فابتسموا و ابتسمت عيونهم .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى