القاضي الخليل بومن يكتب..جريمة الخيانة العظمى في ضوء الأنظمة المقارنة
8 يوليو، 2020
الشيخ الخليل ولد بومن
تعد جريمة الخيانة العظمى المنصوصة في جميع الدساتير الديمقراطية -وخاصة في بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة الأمريكية وتونس والجزائر – جريمة سياسية بحته، إذا أرتكبها رئيس الجمهورية بمناسبة إساءة استخدامه لوظائفه الدستورية، أو محاولة الإنقلاب على الدستور، أو عرقلة عمل الجمعية العامة.
وتتفق جميع هذه الدساتير -تقريبا- على تعريف هذه الجريمة، وعلى اختصاص البرلمان في توجيه التهمة المذكورة للرئيس، وإحالته أمام محكمة خاصة تشكل من بين أعضاء الغرفتين، وهي محكمة ذات طابع استثنائي، لديها الإختصاص الكامل في تحديد الأفعال التي يمكن تكييفها على أنها خيانة عظمى، أو إخلالا من الرئيس بواجباته خلال ممارسته لوظائفه.
و في كل هذه الدساتير -بما فيها الدستور الفرنسي- لا تتجاوز العقوبة والطلبات المقدمة عزله بالمصطلح الوارد في الدستور الأمريكي والتونسي، أوتنحيته بحسب المصطلح الوارد في دستور فرنسا بحكم غير قابل للطعن من المحكمة الدستورية، ويسميها الدستور الفرنسي “بالمحكمة العليا “.
وقد تصل العقوبة لمنعه من الترشح لمأمورية ثانية، ولا يستفيد بحسب الدستور الأمريكي من حق العفو، أو استبدال العقوبة بعد الادانة. وينص الدستور الفرنسي على استبعاد الحصانة الرئاسية ومن الإمتياز الدستوري القضائي بعد نهاية مأمورية الرئيس بشهر، حيث تمكن متابعته قضائيا كمواطن عادي أمام القضاء العادي على جميع الجرائم والجنح التي يكون ارتكبها خلال ممارسته لمهامه كرئيس، بينما تختص محكمة عدل الجمهورية -بنص الدستور الفرسي- في محاكمة الوزير الأول وأعضاء الحكومة، وهي محكمة دستورية ثانية يترأسها قاض، وتكيِّف الجرائم والعقوبات بناء على قانون العقوبات الفرنسي، ويمكن لأي مواطن تضرر من عمل الوزراء والرئيس رفع دعوى عليهم بعد انتهاءمهامهم بشهر واحد، ولا شك أن مشرعنا الدستوري يستلهم نفس المسطرة تقريبا من المشرع الفرنسي، مع اختلافات طفيفة لا تمس روح المسطرة الدستورية المقررة لإنشاء محكمة مختصة بمحاكمة رئيس الجمهورية، في نفس الظروف المحددة لذلك، ووفق إجراءات نيابية تتضمن سلطة اتهام الرئيس وبنفس المناسبة ونفس الأفعال، ومحاكمته على هذا الأساس من طرف الهيئة التشريعية ضمن مسطرة خاصة.
أراد المشرع الموريتاني أن يمزج قانونا فيها بين القضاة والبرلمانيين، بالنص على قطب للتحقيق من القضاة ضمن اجراءاتها الخاصة، ودور شكلي للادعاء العام، واجراءت مراجعة أمام قضاة التحقيق قبل الإحالة وأمام نفس التشكلة فضلا، بمع اجراء مراجعة أمام تشكلة حكم برلمانية مغايرة، لا توقف تنفيذ الحكم بعد صدوره.
والخلاصة -هنا- هي أن النصوص الدستورية العريقة التي أستلهم منها المشرع الموريتاني هذه المسطرة الدستورية، وأهم الإجراءات أمامها، تقول بلغة فصحى وبنص صريح لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير لروحه، أن رئيس الجمهورية لا توجه إليه تهمة الخيانة العظمى أمام هذه المحكمة الدستورية، إلا وقت ممارسته لمهامه كرئيس، إذا صدر منه فعل ضمن التكييف الدستوري للخيانة العظمى، ولا يعاقب اذا تمت ادانته إلا بالعزل والتنحية (الدستور التونسي والفرنسي والجزائري والأمريكي) وهذه المحكمة سياسية وليست جنائية، لا تصدر عنها إلا العقوبات السياسية مثل العزل والمنع من حق الترشح مرة أخرى للرئاسة، وهذا امتياز وحماية لمركز رئيس الجمهورية، في نفس الوقت الذي يمثل سلاح ردع للتوازن بين السلطات، بيد السلطة التشريعية التي تنوب عن الشعب في مواجهة محاولة الرئيس الذي يملك في النظام شبه الرئاسي والرئاسي صلاحيات كبيرة وخطيرة، إذا انحرف في استخدامها:عسكرية وقضائية وإدارية وسياسية وتشريعية، ومن هنا يتضح أن هذه التهمة لا يواجه بها إلا رئيس حاكم فعلا، وهي تعبير عن رفع حصانته الدستورية وعزله بعد ادانته بجريمة الخيانة العظمى، وبالتالي يخرج منها الرؤساء السابقون ولا يتمتعون بها، ويحاكمون كمواطنين عاديين على جميع الجرائم التي يرتكبونها ضد الدولة، أو ضد الأشخاص، خلال ممارستهم لوظيفة رئيس الجمهورية في السابق، وفق إجراءات المساطر العادية وأمام المحاكم العادية إذا كانت أفعالهم المشتبه فيها محل شكاية أوبلاغ من الدولة، أو أشخاص متضررين منها،وللنيابة سلطة المتابعة والاتهام الحريصة على مصلحة الدولة والمجتمع، سواء تعلق الأمر بجرائم الفساد أو خيانة أمانة… ويكون هنا القانون الجنائي هو المنطبق، وتكون العقوبة بعد ثبوت الإدانة عقوبة جنائية، عكس العقوبة السياسية المنطبقة على الرئيس في حالة وجوده في هذا المركز.
وهذه الفلسفة الفقهية الدستورية والقانونية تحوز شبه إجماع الدساتير في الدول الديمقراطية العريقة، وأهم دول مغربنا العربي.