ذكر لي بعض الائمة الفضلاء أنهم كانوا يصلون الجمعة سرا لانهم لا يرون ضرورة تعطيل الجمعة ولا يرون مشروعية تدخل السلطان في مجال العبادات ..
ولا ضرورة استئذان السلطان لصلاة الجمعة .
وتعليقا على كلامهم أقول :
القول بأنه لا دخل للسلطان في مجال العبادات قول غير دقيق ..!!
فالعبادات ما كان منها متعلقا بالشأن الفردي قد لا يكون للسلطان فيه دخل ؛ وما كان منها مرتبطا بالشأن العام فهو مرتبط بالسلطان ؛ لان السلطان هو الذي ينظم الشأن العام .
ومن امثلة ذلك تعلق الصوم بما يثبته الحاكم من الرؤية ..
وتعلق الزكاة بمجيء الساعي ..
وتعلق الاضحية بذبح الامام عند بعض اهل العلم.
وبالتالي لا غرابة ان يقال بان صلاة الجمعة مرتبطة بالإمام ؛ وان استئذانه في إقامتها مطلوب .
وقد استقر عند التابعين ان اقامة الجمعة من وظائف السلطان .
قال ابن عبد البر :
(وقد ذكرنا في باب حديث ابن شهاب عن عبيد الله عن جماعة من التابعين أن الحدود والجمعة إلى السلطان )التمهيد (10/ 288)
وذكر ابن عبد البر ايضا اتفاق العلماء على هذه المسألة فقال :
(ولا يختلف العلماء أن الذي يقيم الجمعة السلطان وأن ذلك سنة مسنونة)التمهيد (10/ 288).
ولأن الجمعة من وظائف السلطان فقد وردت بعض الآثار عن السلف تدل على أن السلطان من خصائصه انه يجمع في السفر
وقد بوب ابن أبي شيبة في المصنف : “الإمام يكون مسافرا فيمر بالموضع”.
وقال : حدثنا وكيع ، عن سعيد بن السائب ، عن صالح بن سعيد ، قال : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى السويداء متبديا ، فلما حضرت الجمعة أذن المؤذن ، فجمعوا له حصباء ، قال : فقام فخطب ، ثم صلى الجمعة ركعتين ، ثم قال : الإمام يجمع حيث ما كان.
و حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن سويد ، قال : صلى بنا معاوية الجمعة بالنخيلة في الضحى ، ثم خطبنا. انتهى.
وقال ابن عبد البر :
(ذكر عبدالرزاق عن معمر عن الزهري أنه كان يقول حيثما كان أمير فإنه يعظ أصحابه يوم الجمعة ويصلي بهم ركعتين)التمهيد (10/ 287).
وكون الجمعة لا تسقط عن السلطان في حالة السفر ففي هذا دليل على انها صلاة مختصة بالسلطان والناس يقيمونها تبعا له.
ومن الادلة على مشروعية طلب اذن الامام في صلاة الجمعة:
١- ما أخرجه محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه عن علي بن خشرم عن عيسى ابن يونس عن شعبة عن عطاء بن ميمونة عن أبي رافع أن أبا هريرة كتب الى عمر رضي الله عنه يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين ؛ فكتب اليهم : ان “جمعوا حيثما كنتم” .
قل البيهقي في ” المعرفة” : واسناد هذا الحديث حسن.
واخرجه ابن ابي شيبة من طريق ابي رافع ايضا وقال العيني سنده صحيح.
وقال الألباني : إسناده صحيح على شرط الشيخين ، و أبو رافع هذا اسمه نفيع بن رافع الصائغ المدني و احتج بهذا الأثر الإمام أحمد .
وجه الدلالة من الاثر : ان ابا هريرة رضي الله عنه لم يبعث الى عمر رضي الله عنه يساله عن حكم الجمعة لان ابا هريرة من فقهاء الصحابة و مسالة وجوب صلاة الجمعة معلومة من الدين بالضرورة ..
اذن فسؤاله لم يكن عن الحكم وانما كان سؤالا من فقيه الى ولي الامر يستأذنه في إقامة الجمعة.
وما كان لابي هريرة ومن معه من الصحابة ان يعطلوا الجمعة انتظارا لإذن عمر رضي الله عنه الا اذا علموا ان استئذان الإمام في إقامة الجمعة امر مطلوب شرعا ..
وما كان لعمر رضي الله عنه ان يقرهم على هذا التعطيل الا إذا كان مشروعا..
فدل هذا على مشروعية استئذان الامام في إقامة صلاة الجمعة وان ذلك مطلوب.
٢- ثم ان أهل البحرين كانوا من اول النواحي التي اقيمت فيها الجمعة بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.. وكان ذلك ايضا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم..
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال :” أول جُمعة بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسجد عبد القيس بجؤاثي من البحرين،”.
قال الحافظ تعليقا على هذا الحديث : “الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا
إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد
بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي”.
٣- وكذلك اول جمعة صلاها مصعب بن عمير بالصحابة في المدينة كانت ايضا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي ذلك يقول ابن رجب الحنبلي :
(وروى عبد الرزاق في “كتابه” عن معمر ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن ، فاستأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجمع بهم ، فأذن له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وليس يومئذٍ بأميرٍ ، ولكنه انطلق يعلم أهل المدينة.
وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : من أول من جمع ؟ قال : رجلٌ من بني عبد الدار -زعموا- ، قلت : أ فبأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : فمه .
وخرَّجه الأثرم من رواية ابن عيينة ، عن ابن جريج ، وعنده : قال : نعم ، فمه .قال ابن عيينة : سمعت من يقول : هو مصعب بن عميرٍ .
وكذلك نص الإمام أحمد في- رواية أبي طالب – على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو امر مصعب بن عمير أن يجمع بهم بالمدينة .
ونص أحمد -أيضاً- على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير .
وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي .
فتبين بهذا : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بإقامة الجمعة بالمدينة ، )فتح الباري لابن رجب (6/ 144).
ثم علق ابن رجب على ما روي عن ابن سيرين ، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم ، من غير أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالكلية ، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة .
فقال : (ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم ، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا ، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة ، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك ، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه ، وكان باجتهاد منهم ، لا بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – )فتح الباري لابن رجب (6/ 146).
وهذا الجمع الذي ذهب اليه ابن رجب رحمة الله عليه متعين؛ لان الجمع بين النصوص اولى من إلغاء بعضها كما قال في مراقي السعود:
والجمع واجب متى ما أمكن
اولا فللأخير نسخ بينا .
٤- ومما يدل ايضا على ان الصحابة كانوا
يستأذنون الامراء في إقامة الجمعة ما رواه البيهقي عن الليث بن سعد ان ” أهل الاسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يُجَمِّعُونَ الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة”.
***
وذهب بعض اهل العلم من الصحابة و السلف الى ابعد من هذا فقالوا: لا يكفي إذن السلطان وحده ؛ بل لا بد ان يكون السلطان او نائبه هو الامام ؛ فلا تصلى الجمعة الا خلف الامام او نائبه ..
وهذا القول مروي عن ابن عمر رضي الله
وعمرو بن العاص ..
روى البيهقي عن سعيد بن العاص أنه سأل بن عمر عن القرى التي بين مكة والمدينة ما ترى في الجمعة ؟
قال : “نعم إذا كان عليهم أمير فَلْيُجَمِّعْ”.
وقال ابن رشد : (وعمرو بن العاص روي ان قوما اتوه فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة فقال : هيهات ..لا يقيم الجمعة الا من أخذ بالذنوب وأقام الحدود وأعطى الحقوق) البيان والتحصيل (450/1).
وروى ابن ابي شيبة في المصنف: (حدثنا وكيع عن جعفر بن بُرْقَانَ ،قال : كتب عمر بن عبد العزيز الى عَدِيِّ بن عَدِيٍّ ، أيما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون ؛ فَأَمِّرْ عليهم أميرا يُجَمِّعُ بهم.)مصنف ابن أبي شيبة (2/ 102).
وروى البيهقي ان الوليد بن مسلم قال :
(سألت الليث بن سعد فقال كل مدينة أو قرية فيها جماعة وعليهم امير امروا بالجمعة فليجمع بهم)السنن الكبرى للبيهقي (3/ 178)
ومسألة اشتراط السلطان او الامير لصحة صلاة الجمعة اختلف فيها أهل العلم على قولين ..
وفي ذلك يقول ابن عبد البر :
(مذهب مالك والشافعي والأوزاعي على اختلاف عنه والطبري كلهم يقول تجوز الجمعة بغير سلطان كسائر الصلوات وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا تجزئ الجمعة إذا لم يكن سلطان )التمهيد (10/ 286)
والقائلون باشتراط السلطان او الامير لصحة صلاة الجمعة ذهبوا الى سقوط صلاة الجمعة اذ حضرت بعد وفاة السلطان وقبل مبايعة غيره..
قال ابن عبد البر :
(اختلفوا عند نزول ما ذكرنا من موت الإمام والجمعة قد جاءت فذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي إلى أنهم يصلون ظهرا أربعا وقال مالك والشافعي “وأحمد وإسحاق وأبو ثور” يصلي بهم بعضهم بخطبة ويجزيهم)التمهيد (10/ 288).
هذا الخلاف الذي ذكرنا هو في مسالة اشتراط السلطان للجمعة ..
وهي تختلف عن مسألة استئذان الامام لإقامة الجمعة ..
والغالب على من لا يرون اشتراط الإمام للجمعة أنهم يرون سنية استئذانه إن كانت ممكنة ..
وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة ..
والنصوص التي اوردناها سابقا تدل على أن استئذانه مطلوب .
والقول باشتراط اذن الامام نسبه ابن عبد البر الى الامام أحمد فقال :
(وروي عن محمد بن الحسن أن أهل مصر لو مات واليهم جاز لهم أن يقدموا رجلا يصلي بهم الجمعة حتى يقدم عليهم وال
قال أحمد بن حنبل يصلون بإذن السلطان)
التمهيد (10/ 286).
واما الامام مالك فقد نسب اليه كلام يدل على أنه يقول باشتراط اذن السلطان اذا كان موجودا ..
قال ابن رشد : (وقد روي عن يحيى بن عمر انه قال : “الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام الا بثلاثة : المصر والجماعة والامام الذي تخاف مخالفته)البيان والتحصيل (1-450).
فقوله : “الامام الذي تخاف مخالفته” يدل على أنه يرى اشتراط اذن الامام.
لكن هناك بعض النصوص التي وردت عن الامام مالك توهم بانه لا يشترط إذن الامام !
ومن ذلك ما ورد في المدونة :
(قال وقد سأله أهل المغرب عن الخصوص المتصلة وهم جماعة ؛ واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت ؛ وقالوا : ليس لنا وال ؟
يجمعون الجمعة ..وان لم يكن لهم وال !
قال : وقال مالك في أهل مصر أو قرية يجمع في مثلها مات واليهم ولم يستخلف فيبقى القوم بلا إمام ؟
قال : اذا حضرت صلاة الجمعة قدموا رجلا منهم فخطب بهم وصلى الجمعة ..)المدونة الكبرى ( 1-233).
وهذا المنقول في المدونة ليس فيه ما يعارض ما نقله يحي بن عمر لأنه يتكلم عن حالة واحدة هي انعدام السلطان او غيابه.
وما نقله يحي بن عمر انما هو في حالة وجود السلطان.
فيكون قول الامام مالك في هذه المسالة قولا واحدا هو : صحة صلاة الجمعة في حالة انعدام الامام ؛ واشتراط اذنه في حالة وجوده.
هذا ما ظهر لي توفيقا بين النصوص المنقولة عن مالك والله اعلم .
وقد نبه ابن رجب الى ان اشتراط المصر الذي يشترطه بعض العلماء للجمعة كأبي حنيفة والنخعي والثوري إنما يرجع في حقيقته الى اشتراط اذن الامام ؛ حيث قال : (من قال : لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ ، فإنه أراد بذلك القرى التي فيها والٍ من جهة الإمام ، فيكون مراده : أنه لا جمعة إلا بإذن الإمام في مكان له فيه نائب يقيم الجمعة بإذنه .
وبذلك فسره أحمد في روايةٍ عنه .
وكذلك روى عن محمد بن الحسن – صاحب أبي حنيفة – تفسير المصر : أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا له لإقامة الحدود ، فهو مصرٌ ، فلو عزله ألحق بالقرى .
وروي نحوه عن أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة – أيضاً .
قال أحمد : المصر إذا كان به الحاكم ، ولا يقال للقرى : مصرٌ .)فتح الباري ـ لابن رجب (5/ 390).
لقد كانت صلاة الجمعة هي اكثر العبادات احتكاكا بالجانب السياسي
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون يجعلون من خطبة الجمعة منبرا اعلاميا رسميا لا يستثني شيئا من القضايا السياسية للدولة
وهكذا ظلت خطبة الجمعة ركنا من أركان السلطة في الدولة الاسلامية ..
ولهذا عندما أراد السبئيون المشاغبة على حكم عثمان رضي الله عنه حصبوه وهو يخطب على المنبر!
ومع الايام اصبحت خطبة الجمعة رمزا من رموز السلطة .
فكان من اول علامات الخضوع للسلطان الجديد ان يذكر اسمه على المنبر ويدعى له ..
وفي احيان كثيرة تكون خطبة الجمعة ايضا وسيلة للإعلان عن ولاية العهد ؛ فيدعى لولي العهد بعد الدعاء للسلطان.
ومن امثلة ذلك قول ابن كثير :
(ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة ؛ فيها قدم من جهة الخليفة رسل إلى السلطان يعلمونه بولاية العهد لأبي نصر الملقب بالظاهر بن الخليفة الناصر فأمر السلطان خطيب دمشق أبا القاسم عبدالملك بن زيد الدولعي أن يذكره على المنبر )البداية والنهاية (12/ 332).
فتبين من خلال ما سبق ان محاولة الفصل بين السلطان وصلاة الجمعة امر لا يستند الى مسوغات فقهية او ادلة شرعية ..
والله اعلم
كتبه :
محمد الامين ولد آقه.