الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
القول بأن الإحراق بالنار علامة لقبول الصدقة ، لا يكون قولا صحيحا الا اذا كان المقصود به شرع من قبلنا ، وأما في شريعة الاسلام فهذا القول غير صحيح ..!
وقد روى ابن جرير في سبب قتل ابن آدم لأخيه عن ابن عباس أنه قال:
(فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا “لو قربنا قربانًا”! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين.) تفسير الطبري (10/ 203)
و بين ابن عباس في بداية هذا الأثر أن سبب جعل أكل النار علامة للقبول ، هو أنه في ذلك الوقت لم يوجد فقير تدفع إليه الصدقة فجعل أكل النار لها علامة على القبول ، يقول ابن عباس : (كان من شأنهما أ
نه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه، وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل.) تفسير الطبري (10/ 203).
ومن الخطأ الظن بان هذه النار التي تحرق القربان هي نار عادية..!
بل هي نار بيضاء تنزل من السماء لهذا الغرض خاصة..
ولهذا قال البغوي: (وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع،) تفسير البغوي (3/ 42)
وقال أبوحيان :(وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل.)
وروى ابن المنذر في تفسيره عن ابن جريج قال : ” كان من قبلنا من الأمم يقرب أحدهم القربان، فتخرج النار، فينظرون أيتقبل منهم أم لا؟ فإن يقبل منهم جاءت نار من السماء بيضاء، فأكلت ما قرب، وإن لم يقبل لم تأت تلك النار،) تفسير ابن المنذر (2/ 518).
ومع ذلك فقد ذهب العز ابن عبد السلام إلى أن هذه النار هي مجرد شعاع يرفع القربان إلا السماء وليس نارا حارقة !
وفي ذلك يقول : (فكان هابيل راعيا فقرب سخلة سمينه من خيار ماله ، وكان قابيل حراثا فقرب حزمة سنبل من شر ماله فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل علامة لقبوله وتركت قربان قابيل ولم يكن لهم مسكين يتصدق عليه ..وكانت السخلة المذكورة ترعى في الجنة حتى فدي بها إسحق أو إسماعيل ،) تفسير العز بن عبد السلام (ص: 253)
وأما بالنسبة لقوله تعالى : {الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النار..}
فقد علق عليه الرازي بقوله :
(واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين:
الأول وهو قول السدي : أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط ، وذلك أنه تعالى قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام. فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان تأكله النار. قال : وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح عليه السلام ، فلما بعث اللّه المسيح ارتفعت وزالت.
القول الثاني : إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أنه لو كان ذلك حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك ، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان. وثانيها : أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء ، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة ،) مفاتيح الغيب ـ (9/ 449)
وقد رجح الطاهر ابن عاشور كذب اليهود في ما ادعوه فقال :
(قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان، أي حتى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرب فأحرقته. كما في سفر اللاويين. إلا أنه معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة.
وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة») التحرير والتنوير (4/ 185)
ومهما يكن…فإنه لا علاقة لشريعة الإسلام بهذه القضية..!
لأن قبول العمل من المسائل التي اختص الله بعلمها في شريعتنا، ولم يجعل لها علامة ظاهرة..
ولهذا لما ذكر ابن جرير الطبري قصة ابني آدم، علق عليها بقوله:
(وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا , غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبل منها وغير المتقبل – فيما ذكر- بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لم يتقبل منها . والقربان في أمتنا : الأعمال الصالحة : من الصلاة , والصيام , والصدقة على أهل المسكنة , وأداء الزكاة المفروضة , ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود.) تفسير الطبري (8/ 327).
وقد نهى الله تعالى عن تزكية النفس فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم”. فقالوا: بم نسميها؟ قال: “سموها زينب”.
و روى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه قال مدح رجل رجلا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- – قال – فقال « ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك ». مرارا « إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذاك كذا وكذا ».
فالزعم بأن الله تعالى تقبل من فلان ..هو من باب التزكية التي نهى الله عنها..
والنار التي كانت علامة للقبول في الأمم السابقة ليست هي نار الحريق ،بل هي نار تنزل من السماء.
والله أعلم والحمد لله رب العالمين.